د.محمد نعمان يكتب: قطب اليسار المنشود
نبأ الأردن -
يتم الحديث في الاروقة والدهاليز هذه الايام عن امكانية ملموسة لتوحيد "التيار الديمقراطي الوطني المدني"-اليساري الاردني في قائمة موحدة لخوض انتخابات مجلس النواب القادم.
هل ستلتف قوى اليسار الاردني حول طوق النجاة الذي سقط عليهم جراء قانون الانتخابات الجديد أم ستبقى تهرف من دوامات التقوقع والتشتت الحبيسة بها.
هذا التحرك اعاد الموضوع القديم الجديد للحديث حول وحدة قوى اليسار كافة والتي تشكل جزءا مهما في مشروع التحديث المجتمعي والسياسي ، فهي ليست قضية ثانوية يمكن تأجيل الخوض فيها وبما يرتبط بها من تعقيدات وصعوبات،بل هي شرط حاسم من شروط التقدم والنجاح في رهانات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتوازن السلطات وترسيخ أسس الحداثة المجتمعية والفكرية.
إن مفهوم اليسار مفهوم واسع ، بحيث يصعب اختزاله في بضعة كلمات او بضعة تنظيمات مهيكلة على اختلاف أحجامها وتمثيلها في المجتمع ، فاليسار كحركة فكرية سياسية وإبداعية نقدية يشكل تيارا اجتماعيا لا يستهان بقوته وقدراته وغناه،وتنوع أشكاله وتعبيراته، وبهذا المعنى فاليسار ليس فقط مشروع نظري ومجتمعي وسياسي يخص تجمعاته بل هو مشروع حياة ،وهو قصيدة وأنشودة ومسرحية ومؤلفات عن التراث والفن والثورة والمقاومة...وهو روح وهاجة تتطلع دائما الى التغيير وتنشد الحرية والمساواة …
هو القفز من ظلمات الماضي السحيق الى أحضان المستقبل بآفاقه الرحبة،وهو محرك وضاء لأماني ووجدان أجيال،وذاكرة جماعية ترسخت فيها تجارب النضال الواحد والمتعدد الأشكال والواجهات، بكل ماجسدته تلك التجارب النضالية من قيم التضحية ونكران الذات في سبيل المبادئ والقيم السياسية الوطنية والديمقراطية التقدمية .
اليسار اذن هو أكبر وأوسع من تنظيماته وجزره ، وهذا ما ينبغي استحضاره دائما في كل حديث عن مطلب الوحدة ، وبتعبير استفهامي : كيف تصبح أحزاب اليسار وفصائله مؤهلة لتأطير وتنظيم اليسار كقوة مجتمعية كامنة ومتنوعة التعبير عن ذاتها ،أي ما يطلق عليه "شعب اليسار" !!!
ذلك هو السؤال الذي من المفروض أن يجمع كل مساعي التوحيد والأئتلاف ، وإلا ستصبح الوحدة المنشودة لليسار في "قطب كبير"مجرد جمع حسابي وفوقي معزول لمجموعة من نشطاء التنظيمات الحزبية ألمأزومة على العموم..
هناك ضرورة ملحة لإعادة هيكلة اليسار، ومراجعة تجربته، وتقييم أسباب تراجعه، وبلورة أفق استعادة إشعاعه الفكري والإيديولوجي، ووزنه في المشهد السياسي الوطني، الحزبي والجماهيري، فمشروع اليسار المجتمعي ما زالت له هيبته ، وضرورته الموضوعية وما زالت الحاجة إليه قائمة وحيوية في تحقيق مشروع التحديث السياسي والمجتمعي الشامل.
كما ان المعطيات والظروف الموضوعية الراهنة تفرض بإلحاح على قوى اليسار التحلي بكل جرأة وشجاعة وصدق وإرادة نضالية والسرعة في استغلال مرحلة الانتخابات وبناء أسس جديدة للوحدة الفكرية والسياسية والتنظيمية ، وإبداع صيغها الممكنة.
ان معطيات العولمة الزاحفة"بغض النظر عن وجهها الإيجابي كظاهرة تاريخية"تعكس درجة عليا في تطور التاريخ البشري، أضحت تهدد بآلياتها وتوحشها الكيانات الضعيفة وتعمق الفوارق الاجتماعية ،وتفاقم من جيوش العاطلين والمهمشين مما يقتضي ويفرض بالضرورة تجمعا يساريا قويا ومنظما وقادرا على التحول إلى كتلة مجتمعية فاعلة ووازنة ، وقوة تاريخية للتغيير والبناء تمثل كل مصالح المجتمع ومكوناته المتنوعة.
إن كل هذه المعطيات مجتمعة تبرز كم هي حيوية مسألة الانتقال بوضعية اليسار الاردني من وضعية الجزر المشتتة إلى وضعية القطب التنظيمي الواحد المؤسس على كل القواسم المشتركة القائمة بين تنظيماته الحزبية رغم الاختلافات التكتيكية واختلاف التقدير أحيانا لأولويات المرحلة السياسية الراهنة – تشكل قاعدة صلبة لتوحيد الممارسة والرؤية، إذا ما تم تجاوز الكثير من العوائق السيكولوجية والحساسيات ألذاتية والحسابات المصلحية الضيقة التي تعودت "الاعتياش” على التشتت والتعدد اللامنطقي لكيانات حزبية ضعيفة..
أن معطيات المرحلة السياسية الراهنة تفرض على كل القوى الديمقراطية، واليسارية خاصة ، تجنيد كل طاقاتها للانخراط في عملية تعبوية داخل المجتمع : تنظيمية واعلامية لتوضيح خصوصيات المرحلة الراهنة ، ولآفاق العمل الديمقراطي المفتوح أكثر من أي وقت مضى من أجل الوصول الى نظام الملكية النيابية الدستورية الحقة ودولة المواطنة والعدالة والقانون ، فبدون هده الخطوة التوحيدية ، فإن كل الاحتمالات السيئة ستظل واردة وتخطي العتبة الانتخابية ستكون مقصلة كل من يحيد عن خيارات شعب اليسار ويزيد من احتمالات الارتداد على المكاسب المحققة ، والتقهقر الى الوراء وعدم الانسجام مع التوجهات الملكية الرامية الى استكمال البناء الديمقراطي للدولة وإنجاح التجربة الحزبية الاردنية.
إن مشروع قطب اليسار الموحد يبقى ،اذن، هو الجواب الشافي لضمان النجاح في تخطي العتبة الانتخابية بكل سهولة ويمهد الطريق لنجاح التجربة الحزبية في صنع الحكومات.
وتوحيد اليسار في قطب جماهيري وتنظيمي كبير، هو مشروع لا يتناقض مع تطوير كل أشكال العمل والتنسيق مع بقية القوى الديمقراطية ذات الشرعية التاريخية والشعبية و الديمقراطية ، ذلك أن نمو وتقوية اليسار مرتبط بنهوض جماهيري ديمقراطي واسع يشمل كل القوى والفعاليات ذات التوجه الديمقراطي الحداثي ، وهي القوى الحليفة –موضوعيا- لقطب اليسار الكبير المنشود. ويدعم كذلك المبادرات المستقلة لقوى المجتمع المدني من أجل بناء مواطنة حقيقية فاعلة "والتي تعتبر شرطا حيويا من شروط حضور قوي ومؤثر لليسار داخل المجتمع " اذ لا تقدم لليسار والقوى الديمقراطية عموما إلا بمجتمع مدني قوي ومستقل.
فهل ستكون احزاب اليسار مع الموعد الوحدوي المطلوب في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها بلدنا والعالم المحيط ومغادرة الحسابات الذاتية وخنادق التشتت والتقوقع والتحول الى بوابة التقدم الديمقراطي وفرض سلطة القانون،ومن أجل تحقيق تطلعات "شعب أليسار”