د. ماجد الخواجا يكتب..محاولة فهم ما لا يفهم .. تاريخ من الوجع البشري

{title}
نبأ الأردن -

" عند انتهاء الحرب تذكروا ستنتهي الحرب ، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها، وتلك الفتاة تنتظر محبوبها، وتلم الزوجة تنتظر زوجها، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل، الأبطال لا يعودون، لا أعلم من باع الوطن، لكن رأيت من دفع الثمن "
يعتبر الاتحاد السوفياتي أول دولة شيوعية استمرت ما بين عام 1917 ولغاية عام 1991 ، وتأسست بثورة اشتراكية في روسيا القيصرية، وتوسعت بضم 15 جمهورية فصارت أكبر دولة في القرن العشرين. قادت المعسكر الشيوعي العالمي سبعة عقود، وما سمي بحلف وارسو أو الكتلة الشرقية أو الجدار الحديدي الذي رسمه جدار برلين بتقسيمها إلى برلين الغربية وبرلين الشرقية.
في 25 كانون الأول من عام 1991 أعلن انتهاء الاتحاد السوفييتي بالكامل ودخوله في ذمة التاريخ، لتنتهي بذلك حقبة الحرب الباردة في السياسة الدولية، وتزول الثنائية القطبية في الهيمنة العالمية.
لقد تقلصت مساحة روسيا وهي الدولة الوريثة للاتحاد السوفيتي بنسبة 24%، من 22,4 إلى 17 مليون كيلومتر مربع، وانخفض عدد السكان بنسبة 49%، من 290 إلى 148 مليون نسمة. وبدأ تاريخ روسيا الحديث من يوم 12 حزيران من عام 1991، حيث أعلنت روسيا في هذا اليوم استقلالها كما هو حال الجمهوريات السوفيتية الأخرى.
وينسب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله تعليقا على حادثة تفكك الاتحاد السوفياتي: " من لا يراوده الأسى لغياب الدولة السوفياتية. إنسان بلا قلب، ومن يعاوده التفكير في إمكانية إعادة مثل هذه الدولة. إنسان بلا عقل".
أوكرانيا أو روسيا الصغرى كما كانت تسمى تاريخيا هي مهد القيصرية الروسية ونحو 17% من السكان هم من الروس وثلث السكان يتحدثون اللغة الروسية وهي مهد الكنيسة الروسية الأرثوذكسية والتي نشأت على أكتافها أمبراطورية القياصرة الروس، شعبها من ذات نسل السلاف الروس والبيلاروسيين، وهي احدى أربع جمهوريات التي تأسس بموجب اتفاق بينها الإتحاد السوفييتي. وهي أيضا احدى الدول الثلاث " روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا" التي بادرت بتوقيع وثيقة الخروج من الاتحاد السوفياتي.
عانت أوكرانيا من الفقر والفساد وزعماء تابعين لروسيا أولهم ليونيد كرافتشوك وليونيد كوتشما، حتى اندلعت الثورة البرتقالية عام 2004 والتي أخرجت البلد من التابعية للمدار الروسي، وجاء إثر الإنتخابات زعيم موالي لروسيا والذي تم اتهامه بتزوير الانتخابات، وهي العادة المتبعة في عديد من الدول التي استقلت نظريا عن الإتحاد السوفييتي. حيث كانت النتائج فيها تظهر فوزا ساحقا للموالين لروسيا. ومن حينها بدأ التهديد من أنصار الزعيم الموالي لروسيا بالانفصال عن أوكرانيا أو الانضمام إلى روسيا وهي التي اعترفت بهما روسيا جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك إضافة إلى شريط حدودي بين أوكرانيا ومولدوفا تسمى بجمهورية ترانسنيستريا، إضافة إلى جمهوريات أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، وهي جميعها محمية ومعترف بها من قبل روسيا، إضافة إلى ناغورنو كاراباخ داخل أذربيجان والتي كانت محمية من قبل أرمينيا قبل أن تستعيدها أذربيجان في المعركة الأخيرة.
ما يجري على الأراضي الأوكرانية هو اعتداء واحتلال واستقواء دولة متضخمة بأنواع وترسانات الأسلحة المدمرة للكوكب بأسره، إنها سياسة فرض الأمر الواقع وإعادة رسم الخرائط وتغيير المعادلات القائمة.
هذه أراء بوتين حيال أوكرانيا: " أوكرانياجزء لا يتجزأ من تاريخنا. " لينين" هو الذي خلق دولة أوكرانيا التي نراها حاليا. "ستالين" هو الذي حرر أوكرانيا ومنحها بعض الأراضي لتشكيل دولتها. بهذه العبارات يتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أوكرانيا التي عرفها ضابطاً في جهاز استخبارات (KGB) إبان العصر السوفييتي، وليس من منطلق رئيس لدولة جارة كانت في يوم ما ضمن ما يسمى بالاتحاد السوفيتي.
منذ أن استقلت دول الرابطة السوفييتية عن القوة العظمى والقطب الثنائي المتمثل بالإتحاد السوفييتي سابقا، فقد ورثت تلك الدول العديد من مخلفات وتركة الدولة العظمى، عبر إبقاء فتيل النزاعات وإيقاظ الفتن الداخلية والمحافظة على درجة من التوتر الدائم الذي يشغل الدول عن إمكانية أن تصبح ذات استقلال وطني وسيادي حقيقي، وجاءت رابطة الصداقة بين الدول المستقلة عن الإتحاد السوفييتي بزعامة روسيا، كبديل مؤقت يتيح لروسيا إمكانيات التدخل الفوري في شؤون وتفاصيل تلك الدول دون اعتبار ذلك تدخلا، بل يغلف على أنه دعم وإسناد لاستقرار الدول الصديقة المستقلة شكلا، فجاء التدخل الروسي في كازاخستان مؤخرا إثر قيام مظاهرات وشبه عصيان مدني كاد أن يودي بالنظام السياسي القائم، حيث أن الدول المستقلة تم فيها زرع أنظمة سياسية موالية لروسيا إما بالخضوع التام أو بالرغبة والنزعة الشخصية كما هو الحال في طاجكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وكازاخستان، وأوزبكستان، بل شاهدنا أنظمة سياسية ذات صبغة سلطوية وزعامة فردية في تلك الدول وصولا إلى توريث الرئاسة للأبناء.
لم يتعد المشهد السياسي لتفكيك تركة الإتحاد السوفييتي عن أشكال أربع للأنظمة السياسية:
المشهد الأول: دول البلطيق الثلاث وهي أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، حيث الهوى غربي أوروبي، لكنها دول مسالمة يمكن استباحتها في أية لحظة. وإن أصبحت ضمن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
المشهد الثاني : ظهرت فيه دول مستقلة استطاعت أن تعيد بناء منظومتها السياسية بشكل شبه مستقل لكنها تحمل ذات الجينات الشيوعية في تفاصيلها، وهذه تشمل بيلا روسيا وأرمينيا وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان، فهي دول بأنظمة شمولية وارتهانات كتوابع لروسيا عند الطلب.
أما المشهد الثالث: فقد تضمن دولا حملت بداخلها توترات جاهزة للإنفجار في كل وقت، مثل أذربيجان وجورجيا وأوكرانيا ومولودفا، حيث بقيت فتائل وصواعق التوتر جاهزة للاستعمال الخارجي الروسي.
والمشهد الرابع: تظهر فيه دول أو جمهوريات حاولت التمرد والانفصال عن الفدرالية الروسية، لكنها جوبهت بقمع شرس وأد الفكرة من جذورها كما حدث في الشيشان وداغستان وتتارستان.
إن العديد من دول ما بعد الاتحاد السوفيتي استلم قيادتها زعماء أحاطوا أنفسهم بهالات القداسة والكاريزما، مثل نور سلطان نزارباييف في كازاخستان إلى أن استقال بشكل مفاجئ في عام 2019، وإسلام كريموف في أوزبكستان، حتى وفاته في سبتمبر 2016. ومن خلال مراسيم أو استفتاءات شكلية أطالت فترة بقائهم في مناصبهم ( وهي ممارسة اتبعها أيضًا الرئيسان ألكسندر لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا وإمام علي رحمان رئيس طاجكستان) أما عسكر أكاييف رئيس قيرغيزستان فكان رئيسًا منذ استقلال الدولة حتى أجبر على الاستقالة نتيجة الثورة القرغيزية من عام 2005، وحكم صابر مراد نيازوف في تركمانستان منذ الاستقلال حتى وفاته في عام 2006، وخلق هالة أوصلته إلى درجة العبادة شخصية حوله. وقام حيدر علييف بتسليم رئاسة أذربيجان لابنه إلهام علييف بعد بناء هالة واسعة وقداسة لشخصيته، وعززت مشاركة ابن عسكر أكاييف وابنته في الانتخابات البرلمانية القرغيزية لعام 2005 المخاوف من استخدام التوريث الأسري في قيرغيزستان، وربما ساهمت في المناخ المناهض لأكاييف الذي أدى إلى الإطاحة به.
في دول آسيا الوسطى وتشمل: " كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، وأوزبكستان" بالإضافة إلى أذربيجان وجنوب القوقاز فهي جمهوريات ذات غالبية إسلامية، أما دول البلطيق فهي تاريخيا تدين بالمسيحية الغربية " البروتستانتية والكاثوليكية"، بالرغم من أن الغالبية العظمى من السكان على النهج الإلحادي. فيما الديانة السائدة في أرمينيا، بيلاروسيا، جورجيا، مولدوفا، روسيا، وأوكرانيا هي المسيحية الأرثوذكسية. ويلاحظ أن التدين قد ازداد في دول ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بما فيها روسيا.
وعلى الرغم من كل القيود التي تضمنها الدستور والقوانين السوفياتية على مر تاريخ الاتحاد، فقد نصت كلها خلال فترة وجوده، على حق كل الجمهوريات الفيدرالية في الخروج منه، اعترافاً بحق تقرير المصير، والتي كان آخرها قبل الانهيار عبر دستور العام 1977، حيث نصّ على " حق الجمهوريات الاتحادية في إقامة علاقات مباشرة مع البلدان الأجنبية وإبرام المعاهدات والاتفاقيات وتبادل الممثليات الدبلوماسية والقنصلية والمشاركة المباشرة في أنشطة المنظمات الدولية "، وهي الحقوق التي لم تقدم أي من هذه الجمهوريات على الاستفادة منها، عدا جمهوريات روسيا الاتحادية وبيلاروسيا وأوكرانيا التي كانت انضمت إلى منظمة الأمم المتحدة منذ قيامها كأعضاء مستقلة كاملة الحقوق بما فيها حق التصويت، وعضوية الجمعية العامة للمنظمة الدولية تقديراً منها لدورها البطولي المتميز في الحرب العالمية الثانية.
إن ما يجري الآن ليس منفصلا عن كل ما تم سرده، فالتاريخ لا ينقطع وهو سلسلة متصلة من الأحداث والشواهد التي تجعلنا في أمواج عاتية من الظلم والقهر البشري المتعاقب.
ما يجري الآن هو سلوك منفلت وغير منضبط ولا يمكن فهمه ضمن العلاقات الدولية وحق الدول في السيادة وتقرير المصير، والأهم أنه يدخل ضمن أطر الاعتداء والعدوان الذي سيكون ضحيته الأولى المدنيين.
التاريخ حقا حمًال أوجًه، والتاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتحول ويستعيد مجرياته عندما تحين الظروف المواتية.
روسيا هي من قامت بإعلان الاتحاد السوفييتي، وألحقت 15 جمهورية وشعب ضمنه، وهي من فرضت الإبادة البشرية الجماعية والإبادة الثقافية على تلك الشعوب، وهي من فككت الاتحاد وأطلقت سبيل الجمهوريات، وهي من فرضت رابطة الدول المستقلة بشروطها، وهي من تحولت إلى النظام الاقتصادي المفتوح، وهي من تريد استعادة أمجاد القيصرية الروسية.


تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير