د. ماجد الخواجا يكتب..أزمة الرأي والدستور .. أزمة حكومية بامتياز
على سبيل تصريح رئيس الوزراء بأن الجريدتين ليستا تابعتين للحكومة
مع بداية الألفية الثالثة وانتشار الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد تأثرت الصحف الورقية على مستوى العالم بانحدار شديد وقياسي ومتواصل في حجم مبيعاتها اليومية، وفي حجم الإعلانات التي راجت ووجدت مجالا وفضاء رحبا عبر التسويق والدعاية الرقمية، حيث لا مجال لأية مقارنة بين أعداد المشاهدين للإعلان والمتفاعلين معه ومع الأدوات الرقمية وصولا إلى اتخاذ قرار الشراء واستلام السلع دون الحاجة لأي تواصل بشري، حيث تتم كافة العمليات عبر شبكة الإنترنت السريعة والفعالة والمضمونة والمؤثرة.
إن ما تمر به الصحف الورقية اليومية من تدهور، والتي سبقتها إليها الصحف الورقية الأسبوعية عندما أعلنت الاستسلام لمتطلبات التكنولوجيا ، فانسحبت واختفت وتلاشت من الظهور، وبقيت الصحف الورقية تصارع وتكابر متكئة على إرثها الماضوي وعلى مفهوم أنها صحف الحكومات ، بل صحف الدولة، وفي الخفاء هناك من يعتبرها صحف الجهات الأمنية.
ونتيجة تراكمية وثقل الحمولات الوظيفية والتي منحت عديدا ممن يسمون بالكتاب الصحفيين رواتب مرتفعة قياسا لإمكانيات وعوائد الصحف، ناهيك عما يتقاضاه مجالس الإدارات ورؤساء ومدراء التحرير وبعض المديرين الذين شكلوا طبقة خاصة بهم بعيدا وتجاهلا للواقع الضحل الصعب للصحف.
إن الحكومات جميعها تعاملت مع هاتين الجريدتين، باعتبارهما أدواتها الإعلامية والتوجيهية حتى لم يعد بالإمكان خلع الثوب الرسمي عنهما، علما أن الجريدتين يستندان إلى مفهوم العمل التجاري كشركات، لكنه تم تمييزهما بأن حظيتا بالدعم الحكومي المباشر وغير المباشر طيلة الفترات الماضية.
إن الحكومات هي المسؤولة عن كثير مما جرى في الجريدتين، فهي كانت وما زالت تتدخل في التعيينات لأدنى المستويات الا بد من استمزاج أمني ابتداء من أجل التعيين، وهي أيضا من تقوم بتعيين مجالس الإدارات ورؤساء التحرير فيهما. وهي أيضا من تتدخل في تشكيلة نقابة الصحفيين، بحيث تكون في غالبيتها للهيئتين العامة والإدارية من منتسبي تلك الجريدتين.
لم يكن متوقعا للصحيفتين أفضل من هذا المصير المحتوم لهما نتيجة الركون إلى أن الحكومة ستقوم بإنقاذهما والعمل على ضخ الأموال لتغطية العجز المتواصل، فاستمرتا بنفس التوجهات ونفس الوجوه التي تغطي وتسود صفحاتها اليومية بهم على أنهم الكتاب الذين لا يشق لهم غبار، فيما الحقيقة الواضحة أن مقالاتهم لم يعد يقرأها حتى صاحب المقال نفسه، وبدأت تظهر الكتابات بأخطائها اللغوية والإملائية والطباعية، ولم تعد الجريدتين تشكلان أدنى تأثير على الرأي العام، ناهيك عن انفصالها التام عن المزاج والذوق والتفاصيل العامة، ولم تعد تمتلك أدنى مقومات الشغف لمطالعتها.
لقد استمرت الصحف بذات المستوى الرسمي من سقف التعبير عن الرأي، ومن عدم المقدرة على مجاراة التكنولوجيا الإعلامية الرقمية ذات الفضاء اللا محدود والمتنوع والثري الواسع.
لم يعد من متلقي أو زبون لديه الرغبة بانتظار الرقيب الأمني والعرفي كي يسمح بنشر خبر أو مقالة أو صورة أو فيديو، أو بث مباشر حي من موقع الحدث كما هو حاصل الآن عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
أي متلقي سينتظر ليوم طويل حتى يرى على موقع الجريدة خبرا تناقلته في لحظته كافة وسائل التواصل.
كما أن الارتجالات في اتخاذ قرارات استنزفت موارد الجريدة ومنها مطبعة جريدة الرأي على طريق المطار التي أهدر فيها ملايين الدنانير دون أي عائد مرتجى، وهو ملف يعطي مؤشرا على حجم الصلاحيات الممارسة برعونة وفردية واضحة ودون الرجوع لأية أطر تنظيمية عند اتخاذ القرار.
لا أدري كيف يمكن فهم تصريح السيد رئيس الوزراء الذي قال فيه أن الجريدتين ليستا تابعتين للحكومة وأنهما يعملان تحت أسس الشركات التجارية. كيف نفهم هذا التصريح الذي يدين الحكومة ابتداء قبل أن يدين أي شخص أو جهة داخل الصحف، فالحكومة تتدخل في معظم تفاصيل الجريدة، سواء من حيث التوجه والمحتوى وحجم الإعلانات، والتعيينات الوظيفية من أصغر عامل فيها إلى رئيس مجلس إدارتها.
لن يكون من حل لأزمة الصحف اليومية الورقية ضمن أية أفكار أو مقترحات تقوم على ذات الذهنية، ويواصل من خلالها بعض النخبة الذين ركبوا وامتطوا موجة الإعلام على أنهم لسان الحكومة غير الرسمي، كي يواصلوا تقاضي رواتبهم الألفية، وببقاء ذات الفضاء الضيق الخانق للصحف والذي لم يعد من زبائن له، وببقاء ذات الواجهات الرسمية التي يتم إسقاطها على مجالس الإدارات في تلك الصحف، ممن يكون دافهم وأولوياتهم الأولى مكافآتهم وبدل جلساتهم التي تمضي غالبا بهز الرأس دون هز العقل.
إن الأزمة لا حل لها في ظل وجود حمولات وظيفية لا حاجة لها والتي تم إسقاطها وفرضها على الصحف، وفي ظل الذهنية الضيقة للفهم الإعلامي، وفي ظل عدم الولوج الحرفي المهني للفضاء الإلكتروني الرقمي، وفي ظل مجالس إدارات أصبحت عبارة عن واجهات باعتبارات غير مهنية، وفي ظل عدم المحاسبة والمساءلة الحقيقية لكافة إدارات الصحف الماضية وما خلفته من عجز مقيم وصعب نتيجة قراراتها غير المدروسة. وفي ظل حكومة لا تمتلك أية حلول واقعية تدعم فيها الصحف وتعيد لشرايينها دماء الحياة.
لا عزاء للرأي والدستور بعد أن أكل الدهر عليهما وشرب، بعد أن طحنتهما الحياة الرقمية، بعد أن تخلت عنهما الحكومات، بعد أن أصبحتا عبارة عن مجرد دوائر بيروقراطية تكتظ بموظفين يكاد انتاجية الغالبية منهم تساوي صفرا. بعد أن أصبحتا خارج السباق وميادين الحياة الإعلامية المتجهة نحو الفضاء الواسع.
كأنني قرأت اليوم خبرا عن منصة أخلاقية للتعامل الرقمي قامت بها وزارة الإقتصاد الرقمي، بهذه الذهنية والتي أيضا تحكم كثيرا من قوانين الإعلام السمعي والمرئي والمكتوب، فلن نستطيع اللحاق بركب ما يجري في العالم .

























