د. محمد جرار آل خطاب يكتب: التوجيهي: رهبة أم دلال وسوء تربية؟

نبأ الأردن -
في كل عام، ومع انطلاق امتحانات الثانوية العامة، تتكرر ذات المشاهد: عشرات الأمهات والآباء يتجمهرون أمام بوابات المدارس، تحت أشعة الشمس الحارقة، لساعات طويلة، في انتظار أبنائهم الخارجين من قاعات الامتحان، وكأن أبناءهم كانوا في غرفة عمليات لا في قاعة دراسية.
قد يراها البعض تعبيرًا عن الحب والخوف على مستقبل الأبناء، غير أن آخرين يرون فيها شكلًا من أشكال الدلال المفرط والتربية الاتكالية، التي تنشئ جيلًا عاجزًا عن مواجهة التحديات بمفرده، وغير مؤهل لاتخاذ خطوات مستقلة في حياته.
في أحد المشاهد المؤلمة، ظهرت أم متعبة تحمل على ظهرها حقيبة وضعت فيها كرسياً لتجلس عليه أثناء انتظار ابنتها. الابنة، بدورها، نشرت صورة والدتها شاكرةً تضحيتها، متعهدةً بوفاء يدوم مدى الحياة. لكنها، للأسف، غفلت عن أن الوفاء الحقيقي هو أن تذهب للامتحان وحدها، وتترك والدتها تستريح في بيتها، بدلاً من تعريضها للإرهاق تحت الشمس. فما المخيف في أن يتوجه الطالب لامتحانه دون مرافقة؟ وما القيمة التربوية في تحويل الامتحان إلى حالة طوارئ عائلية؟
وفي مشاهد لا تقلّ غرابة، يظهر الأهل في مقابلات تلفزيونية عقب خروج أبنائهم من الامتحان، يبدون آراءهم في صعوبة الأسئلة، ويوجهون اللوم للوزارة، وكأنهم هم من جلسوا في المقاعد، لا الطلبة.
وطالبة من الفرع الأدبي ظهرت في مقابلة تشتكي من صعوبة الأسئلة للفرع العلمي واحتياطا حسب قولها حسبي الله على الوزارة.
السؤال هنا: هل الثقة المفرطة بقدرات الأبناء واقعية؟ أم أنها انعكاس لتوقعات مغلوطة، زرعها فيهم بعض المعلمين ومنصات التعليم الخاصة، التي لا ترى في الطالب إلا زبوناً، هدفه تحقيق أرباح، لا بناء وعي حقيقي أو تنمية مهارات واقعية؟
هذا المشهد، في جوهره، يكشف عن خلل أعمق في أساليب التربية: جيل يُربى على أن النجاح "مشروع جماعي"، تتشارك فيه العائلة بكاملها، لا ثمرة للجهد الفردي والمثابرة الشخصية. جيل يتعلم أن مواجهة التحديات لا تكون بالتحمّل، بل بالشكوى وتبادل اللوم.
التوجيهي، في جوهره، ليس مجرد امتحان أكاديمي، بل اختبار للنضج والمسؤولية والاعتماد على الذات. النجاح فيه لا يُقاس بدرجات أو شهادات، بل بالقدرة على عبور هذه المرحلة بثقة واستقلال، لا عبر حالة من "التوتر الجماعي" و"التمثيليات العاطفية" التي تستهلك الأسرة والمجتمع على حد سواء.
والأدهى من ذلك، أن هؤلاء الأبناء، الذين نشأوا على هذا النمط من الاعتماد الزائد على الأهل، هم أنفسهم من يعتبرون أن الدراسة في جامعة خارج محافظتهم "غربة قاسية"، حتى وإن كانت المسافة لا تتجاوز بضع ساعات. فتجد طالباً من عمّان يرفض الالتحاق بجامعة الحسين بن طلال لبعد المسافة، أو شاباً من الزرقاء يرى أن الدراسة في جامعة مؤتة استحقاقا مرهقا، أو شابة من الطفيلة يجد أهلها دراستها في جامعة اليرموك مثلا مغامرة خطيرة.
ويطالب بأن تكون جميع مواده "أون لاين"، لأنه لا يقوى على البقاء بعيدًا عن أهله!
فكيف ننتج جيلًا قادرًا على مواكبة التحديات الوطنية والإقليمية؟ كيف نراهن على شباب يبني وطناً وينهض بأمة، إذا كنا نحن بأنفسنا نغرس فيه بذور الاعتماد، والتهرب من المسؤولية، والضعف في مواجهة أبسط الظروف؟
إن الاستحقاق الأكبر ليس اجتياز امتحان التوجيهي، بل اجتياز امتحان الحياة… والنجاح فيه يتطلب أكثر بكثير من حفظ الكتب أو حصد العلامات، بل يبدأ من تربية صحيحة تُعلّم أبناءنا الاعتماد على النفس، وتغرس فيهم مفاهيم الكرامة والاستقلال، لا ثقافة الدلال والاتكالية.