اسامه أبو طالب يكتب:الكنيسة البيزنطية في العقبة تستدعي التاريخ دعما للسياحة
نبأ الأردن -
تستعد العقبة خلال الأيام القليلة القادمة لافتتاح أحد أهم مواقعها التاريخية على الإطلاق: الكنيسة البيزنطية، التي تعود إلى القرنين الثالث والرابع الميلاديين، وتُعدّ من أقدم الكنائس في العالم التي شُيّدت خصيصًا للعبادة. هذا الموقع الذي ظلّ مدفونًا تحت طبقات الرمال قرابة ألف وسبعمائة عام، قبل أن يُعاد اكتشافه في عام 1998، يعود اليوم إلى الحياة بحلّة تليق بقيمته التاريخية ومكانته الدينية والحضارية.
لكن أهمية هذا الموقع لا تكمن فقط في حجارة قديمة أو أطلال باقية؛ بل في ما يشكّله من نقطة تحوّل في رؤية العقبة للمستقبل، وفي مكانته ضمن هوية سياحية شاملة تُعيد تشكيل «العقبة» ليس فقط كبوابة بحرية، بل كمدينة زمن متراكمة الحضارات.
فمحافظة العقبة تمتلك ثروة أثرية وتاريخية تمتد على مدى آلاف السنوات، ولكنها لم تُقدّم حتى الآن كمنتج مترابط يشكّل تجربة واحدة. إلى جانب الكنيسة البيزنطية، تضم العقبة القلعة المملوكية، وموقع أيلة الإسلامية القديمة، وخربة الراشدية، ومحطة خط الحجاز، وعددًا من المواقع البحرية والتراثية التي تروي قصصًا متعاقبة لحضارات مرّت من هنا: من الرومان، إلى البيزنطيين، إلى الأيوبيين، إلى المماليك، وصولًا إلى العهد الإسلامي الحديث. ورغم هذا الغنى، بقيت هذه المواقع تعمل كجزر منفصلة، دون مسار موحد يعكس هوية المدينة العميقة.
الافتتاح المرتقب للكنيسة يُعد مناسبة لإعادة التفكير بمنظومة التجربة السياحية في العقبة بالكامل. فالموقع لا يمثّل حقبة مسيحية مبكرة فحسب، بل يحمل قيمة روحية وثقافية يمكن أن تضع العقبة على خارطة السياحة الدينية العالمية، وهي من أكثر أنواع السياحة نموًا وإنفاقًا. كما يسمح موقع الكنيسة الجغرافي بربطها مباشرة بمواقع أيلة القديمة والقلعة والمتحف، لتصبح حلقة مركزية في مسار تاريخي متكامل ينطلق من قلب المدينة ويصل إلى أطرافها.
ومع توقيع مذكرة التفاهم الأخيرة بين سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة ووزارة السياحة والآثار، بات للمواقع الأثرية في العقبة إطار إداري أوضح وأكثر احترافًا، يقوم على توزيع الأدوار بدقة: الوزارة تتولى رسم السياسات والحماية الوطنية للتراث، فيما تضطلع السلطة بالمسؤوليات التنفيذية والتطويرية، من تنظيم الزيارة إلى تهيئة البنية التحتية وتحسين تجربة الزائر. هذه المذكرة، إذا جرى تفعيلها وفق أفضل الممارسات، ستنقل المواقع الأثرية في العقبة من حالة التشغيل الجزئي إلى إدارة حديثة تركز على الربط، والهوية، والاستدامة.
وهنا تبرز أهمية تبني رؤية أشمل للسياحة في العقبة، رؤية يمكن تلخيصها بمفهوم «مملكة الزمن». فالأردن لا يمتلك الموارد الطبيعية التي تنافس الدول الغنية، لكنه يمتلك عنصرًا واحدًا لا يُشترى ولا يُصنع: الزمن. الزمن المتراكم في الطبقات الأثرية، وفي القصص الدينية، وفي طرق التجارة القديمة، وفي العمق الثقافي الذي يميّز الجنوب الأردني بأكمله. العقبة، بهذا المعنى، ليست مدينة شاطئية؛ بل مدينة تلتقي فيها حضارات تمتد على ألفي عام. وإذا جرى تقديم هذا المخزون بطريقة ذكية، ضمن مسارات مدروسة، فإن العقبة قادرة على جذب السياح ليس فقط في مواسم البحر، بل على مدار العام عبر منتج يعتمد على التاريخ والهوية، إلى جانب الجغرافيا والطبيعة.
كما أن تفعيل دور مجلس المحافظة، والسلطة، والمدراء التنفيذيين في قطاعي السياحة والآثار، يشكل المثلث الذي يضمن تحويل الكنيسة البيزنطية من موقع أثري إلى قصة اقتصادية وثقافية حيّة. فمجلس المحافظة يمتلك القدرة على تحديد الأولويات ودعم التمويل المحلي، والسلطة مسؤولة عن تطوير البنية التحتية والربط بين المواقع، والمدراء التنفيذيون يمتلكون الخبرة الفنية لوضع البرامج السياحية وقياس جودة التجربة وضمان استدامتها. ومن خلال هذا التداخل المؤسسي، يمكن تحويل العقبة إلى وجهة سياحية متكاملة، لا تعتمد فقط على البحر أو موسم الذروة، بل على مزيج من التاريخ والثقافة والطبيعة.
الكنيسة البيزنطية، إذن، ليست مجرد خبر افتتاح. إنها فرصة لإعادة تعريف العقبة كمدينة تجمع البحر بالتراث، والسياحة الحديثة بعمق الحضارة. إنها لحظة تدعو الجميع—صناع القرار، السلطة المحلية، المجتمع، والقطاع الخاص—إلى بناء مسار جديد قائم على سردية موحّدة، حيث لا تبقى المواقع منفصلة، بل تصبح خريطة متكاملة تحت هوية واحدة: «مملكة الزمن».
وإذا نجح الأردن في تقديم هذه الحكاية كما يجب، فسيرى العالم العقبة ليس كميناء فقط، بل كواحة زمن حيّة تمتد من القرن الثالث الميلادي… إلى القرن الحادي والعشرين.

























