وائل منسي يكتب: حين يفشل الحاضر في ملاحقة المستقبل: أزمة الذكاء الاصطناعي في العالم العربي وفرص الأردن

{title}
نبأ الأردن -
في زمن أصبحت فيه الخوارزميات أكثر تأثيرًا من السياسات العامة، لا يزال الواقع العربي رهين أنظمة بيروقراطية تستهلك الوقت في إدارة الحاضر بدل أن تستثمر في هندسة المستقبل. في عالم يُعاد تشكيله بلغة الذكاء الاصطناعي، تكتفي معظم الحكومات العربية بالاستهلاك السطحي للتقنيات بدل أن تنتج نماذجها السيادية أو تستثمر في تأسيس بنية تحتية معرفية قادرة على فهم وتحليل وتوجيه مسارات الذكاء الاصطناعي بما يخدم مجتمعاتها. المستقبل لم يعد يتحقق من خلال الأمنيات والبرامج الموسمية، بل من خلال استراتيجيات وطنية شاملة تجعل من الذكاء الاصطناعي أداة تمكين اقتصادي واجتماعي وأخلاقي، لا مجرد رفاهية رقمية موجهة للاستهلاك الإعلامي أو الاستعراض المؤسسي.

حين تتعامل الحكومات مع الذكاء الاصطناعي بوصفه ملفًا هامشيًا، فإنها تحكم على نفسها بأن تكون ملحقة بنماذج عالمية أخرى، خاضعة لإيقاع شركات التقنية الكبرى، فاقدة للسيادة الرقمية. فالتحول الذكي لا يبدأ بشراء أجهزة أو توقيع مذكرات تفاهم، بل يبدأ من الجرأة على فتح البيانات، وتأهيل كوادر معرفية قادرة على إنتاج حلول محلية تستجيب لاحتياجات المجتمعات بذكاء سياقي. الاستثمار في العقول يسبق الاستثمار في البنى، والتعليم المستمر يصبح قاعدة نجاة في زمن تتسارع فيه الوظائف وتتبخر فيها المهارات التقليدية.

الشباب العربي، على عكس مؤسساته، يُبدي استعدادًا لاقتحام المستقبل، لكنه يجد نفسه في بيئات تعيق خياله وتكبح قدراته. لا يمكن الحديث عن استثمار في الذكاء الاصطناعي دون إعادة تعريف التعليم، ليس بوصفه عملية تلقين، بل كمختبر دائم للتفكير النقدي والتحليل المنطقي والإبداع التقني. وهنا، يصبح تعلم البرمجة  حتى لمن لا يعمل في التقنية، شرطًا لمواطنة معرفية حقيقية، تُحرر الإنسان من التبعية الرقمية وتمنحه قدرة على مساءلة التقنية قبل الانبهار بها.

ورغم هذا المشهد القاتم، يظل الأردن من بين الدول التي تملك فرصًا واعدة إن أُحسن استثمارها. فالموارد البشرية الأردنية، وخاصة في قطاع الشباب، تمتاز بوعي تقني عالٍ، وانتشار لافت لمهارات البرمجة والتحليل المنطقي، بفضل نظام تعليمي يتماسك رغم التحديات، وبنية تحتية رقمية معقولة مقارنة بغيره من دول الإقليم. الجامعات الأردنية تُخرّج سنويًا آلاف المهندسين والمبرمجين، والأسواق العالمية تطلبهم أكثر مما تحتضنهم السياسات المحلية. لو أن الدولة وضعت الذكاء الاصطناعي على رأس أولوياتها الوطنية، وخصصت له تمويلًا مستقلاً، وربطت مخرجات البحث العلمي بالحاجات المجتمعية والصناعية، لأصبح الأردن مركزًا إقليميًا للأفكار والتطبيقات الذكية. فالشباب الأردني لا ينقصه الذكاء، بل الفرص، ولا يفتقر إلى الطموح، بل إلى بيئة تفسح له المجال ليقود المستقبل لا أن يهاجر إليه.
من يتوجّس من التغيير، ويصر على قدسية النماذج القديمة، سيتحول إلى عبء ثقيل على مستقبله. من لا يعترف بأن السيادة في هذا القرن تقاس بمدى استقلالك التكنولوجي، وبقدرتك على إنتاج أدواتك وأفكارك وبياناتك، سيجد نفسه مستهلكًا دائمًا في سوق العقول، مهما بالغ في تزيين مشاريعه الورقية. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل هو اختبار قاسٍ لصدق الإرادة السياسية، ولعمق الوعي الاجتماعي، ولمدى استعداد المجتمعات لمغادرة عصر التلقي والانخراط في صناعة الممكنات.

إن أزمة الحكومات العربية ليست في نقص الموارد، بل في ندرة الرؤية المستقبلية، وفي العجز عن تخيّل الغد بلغته الجديدة. فإما أن نعيد رسم العلاقة بين الإنسان والتقنية بوصفها شراكة في الوعي والتطور، أو نظل نعيد إنتاج التخلف بأدوات حديثة لا تغير شيئًا في الجوهر.

#وائل #منسي
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير