د. وليد العريض يكتب: الفرصة التي لا تُشترى: العرب أمام مرآة فلسطين"

{title}
نبأ الأردن -
في لحظة تبدو وكأنها تُعاد فيها كتابة خرائط الشرق الأوسط بالنار والمواقف تتقدّم الأحداث الكبرى في فلسطين لتضع العالم العربي أمام امتحان جديد. لم يعد ممكناً التفرج على حرائق الآخرين وكأنها لا تطالنا.
إن المعركة اليوم لم تعد معركة حدود بل معركة كرامة ووعي ومصير.

وفي هذا المقال يقدم الكاتب قراءة عميقة وشاملة يرى فيها أن ما يحدث هو فرصة تاريخية للعرب – من المحيط إلى الخليج – لمواجهة عدوهم المركزي وفرض إرادتهم واستعادة ملامحهم الغائبة في مرآة فلسطين.

ما يجري اليوم في سماء فلسطين لا يمكن اختصاره بعدوان جديد أو فصل دموي عابر. هو كشفٌ كبيرٌ للوجوه والمواقف وزلزال يعيد تشكيل الاصطفافات في المنطقة كلها. وسط هذا المشهد لم يعد مقبولاً أن يبقى العرب في دائرة الانتظار أو الحياد، فقد حانت اللحظة التي تستدعي من كل دولة ومن كل شعب أن يُعيد تموضعه بوضوح، وأن يتخذ قراره لا تجاه فلسطين فحسب، بل تجاه ذاته وكرامته ومكانته في هذا العالم المتغيّر.

إن مصر صاحبة الإرث الثقيل والموقع الفاصل تمتلك اليوم فرصة ذهبية لاستعادة سيادتها الكاملة على سيناء ومعابرها لا فقط جغرافيًا بل سياسيًا. استعادة القرار المصري لا يمكن أن تتم من دون مراجعة حقيقية لطبيعة العلاقة مع الاحتلال خاصة وقد بات الأمن المائي المصري مهددًا وحدودها الشرقية مكشوفة ودورها الإقليمي مسروقًا. في لحظة المقاومة هذه تستطيع القاهرة أن تقول كلمتها وتُثبت ثقلها التاريخي دون وسطاء.

وفي الأردن يتكرّس التناقض يوماً بعد آخر بين موقف الدولة الرسمي واتجاهات الشارع. الأقصى – الوصاية، والمياه – السيادة، والهوية – المستقبل كلها ملفات تمسّ عمّان في الصميم ولا يمكن الحفاظ عليها في ظل سلام بارد يتآكل يومًا بعد آخر. الخيار لم يعد بين الحرب والسلام بل بين الخضوع والبقاء. الأردن الذي تربطه بفلسطين كل عناصر الوحدة يملك فرصة تاريخية للانحياز لما تبقى من مشروع قومي.

لبنان المثقل بأزماته الداخلية وانهياراته الاقتصادية لا يزال يُشكّل نقطة إرباك للعدو الصهيوني بفضل مقاومته الصامدة. لكن هذا لا يكفي. على بيروت أن تُدرك أن معركة التحرر لا تكتمل إلا بتحرير القرار الوطني من قبضة الخارج وتثبيت معادلة الردع في الجنوب وحماية الثروات البحرية التي تتكالب عليها مصالح العدو وأعوانه. إنها فرصة المقاومة لتعيد للسيادة معناها.

وسوريا الجريحة والمنكوبة لم تنكسر. بل رغم الخراب الذي أُريد لها، تعود اليوم شيئًا فشيئًا إلى موقعها وتتأهب لاستعادة دورها المحوري. لم تكن الحرب عليها سوى جزء من خطة لتفكيك الحزام الذي يحيط بالكيان الغاصب. واليوم لا يمكن لدمشق أن تغفل عن اللحظة. فالصمت صار خيانة والموقع الطبيعي لسوريا ليس على هامش المعركة، بل في صلبها.

أما العراق الذي تمزق تحت سكاكين الاحتلال الأمريكي برعاية صهيونية مباشرة فهو مدعو اليوم إلى انتفاضة كرامة، لا فقط لأجل فلسطين بل لأجل نفسه. بلد الحضارات الذي حاولوا عزله وإغراقه في الفوضى، عليه أن يستعيد صوته وأن يعلن صراحة أن معركته هي ذاتها معركة شعبه ومعركة أمته ضد مشروع اقتلاعي لم يكتف باغتصاب فلسطين بل امتدت يداه إلى دجلة والفرات.

ودول الخليج التي لطالما وُضعت بين خيارين: الغرب أو إيران تمتلك اليوم فرصة نادرة لتجاوز هذا الثنائي المضلل. فعدو الخليج الحقيقي لم يكن يومًا جارًا بل كان من فتح بوابه للمحتل وباع أمنه مقابل وهم الحماية. التصالح مع الجيران والخروج من تبعية المهاترات الطائفية بات شرطًا لبناء أمن إقليمي حقيقي. اللحظة سانحة وإضاعة الفرصة ستكون خطيئة لا تُغتفر.

وتونس ذات التاريخ الناصع في الدفاع عن فلسطين لا يمكن أن تنسى اغتيال قادتها على أرضها ولا محاولات العبث بثورتها من بوابات التطبيع والتدخل. آن لتونس أن تُعيد ضبط بوصلتها وتعيد تأكيد عدائها للكيان الذي لم يترك بلدًا عربيًا إلا وخرّب نسيجه أو حلمه.
أما الجزائر فلطالما شكّلت الاستثناء الشريف. موقفها من الكيان الصهيوني لا يحتاج إلى تبرير فهو امتداد طبيعي لتاريخ الثورة، ودماء الشهداء ومشروع الدولة الذي بُني على مبدأ التحرر والكرامة. على الجزائر أن ترفع صوتها أكثر، وتبادر إلى قيادة جبهة عربية جديدة تتجاوز صمت الجامعة العربية وخذلان العواصم.
وفي فلسطين، تختنق السلطة بين واقع الاحتلال ورفض الشارع، لكنها اليوم أمام فرصة نادرة لاستعادة شيء من شرعيتها. فقرار الانخراط الحقيقي في معركة الشعب الفلسطيني ليس خيارًا تكتيكيًا، بل خيار وجود. يجب أن تتحول السلطة إلى أداة مقاومة لا أداة ضبط أمنية. يجب أن تقول: أنا هنا مع شعبي لا مع جلاده.

هذه اللحظة هي فرصة كلّ العرب. فرصة لا تُشترى ولا تتكرّر. من لم يقدر على القتال فعلى الأقل أن يختار موقعه في المعركة. لم يعد مقبولًا أن نبقى في دائرة الحسابات الصغيرة فيما تُرسم حدودنا من جديد بدماء أطفال غزة. الكيان الصهيوني ليس مشكلة الفلسطينيين وحدهم بل خطر وجودي على الجميع. والوقوف ضده لم يعد واجبًا قوميًّا فحسب بل ضرورة وطنية لكل دولة تريد أن تظل حرة.
التاريخ لا يمنح فرصًا كثيرة لكن هذه واحدة منها. فهل نلتقطها؟
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير