د. ماجد الخواجا يكتب: انكفاء غايات التعليم العالي

{title}
نبأ الأردن -
يعاني العالم من قيود كثيرة تعرقل المسيرة نحو التحولات الهائلة في مختلف شؤونه وتفاصيله، ويأتي في المقدمة منها مفاهيم العمل التقليدية والتعليم التي تكرسّت قواعدها عبر عقود من الزمن، لكنها لم تعد تؤدي الغرض منها وسط ثورة معرفية وقيمية وسلوكية لا تتوقف. لقد أصبحت تشكّل عبئاً ثقيلاً أمام التطور القادم دون هوادة، إن مفهوم الشهادات والدرجات والتخصصات الدقيقة لم تعد صالحة للعمل فيها، أو من خلالها وبوساطتها. فهي بضاعة كاسدة فاسدة لا تستقيم مع مراحل الروبوتات والقوة الناعمة الإلكترونية.

إن التعليم الرصين ذا الصرامة العلمية والتراتبية، قد ولّى زمانه، لكن يبدو أن دولا استحدثت طرقاً جديدة للتحايل على تلك الثورة المعرفية، بأن تخلّت حكماً عن الرصانة والصرامة العلمية، لتحلّ محلها السذاجة والرداءة المعرفية وتدفق الخريجين بأعداد لا يمكن تصوّرها أو الحد من فيضانها. لهذا لم يعد غريباً أن تشاهد حملة الدراسات العليا وخاصةً ما تدعى بدرجة دكتوراه الفلسفة في مجالات العلوم، فيما الواقع يشي بأنهم لم يجتازوا الأميّة الرقمية والاجتماعية ناهيك عن المعرفية.

إن ربط الوظيفة بالدرجة التعليمية لم يعد صالحاً في هذا الزمن الرقمي، كما أن فكرة التلقّي والمتلقّي بات على جدواها علامات استفهام كبيرة. لقد انتفت الغايات الكبرى للدرجات الجامعية العليا، عندما كانت الأهداف تتمثّل في استيلاد حملة الدكتوراه بغية استبدالهم بأساتذتهم الذين أدوا رسالتهم التعليمية. كانت الغايات أن يتم توفير طلبة يضاهون أساتذتهم في العلم والمعرفة والاتجاهات العلمية، كما كان يحدث عندما كنا نسمع عن مدرسة علمية بإسم أستاذ محدد في تخصص أو أبعاد تنظيرية محددة. فكانت المدرسة الأرسطية والأفلاطونية، مدرسة سكنر السلوكية، البافلوفية، مدرسة الجشتطلت، المعرفية، مدرسة المنهاج التطوري، مدرسة بيكاسو، ديكارت، آينشتاين، وهكذا. لهذا كانت درجة الدكتوراة عبارة عن درجة التلمذة الأكاديمية المتحصلّة للطالب في مدرسة معرفية ما. كانوا الامتداد العلمي المعرفي الطبيعي لمدارس فكرية نظرية تطبيقية ما. وكانت أعدادهم محددة ويتطلب حصولهم على الدرجة العلمية وقتاً وجهداً وتمثّلاً معرفياً فائقاً. كانوا يسمون بتلامذة المفكّر او الفيلسوف أو العالم باعتبارهم يسيرون على نهجه وافتراضاته المعرفية.

لكن العالم تغيّر، والمدارس تداخلت، ولم يعد العلم يحتمل فكرة الأنانية المعرفية التي تلتصق بشخص محدد. لقد وصلنا إلى مرحلة أن يكون المنتج يتضمن تدخلات ومساهمات لعديد من العلماء والاتجاهات العلمية، حيث أن جهاز الموبايل يتم تصنيعه عبر جهود علمية متعددة، ابتداءً من الرقائق وتصنيعها، فالبرمجة، فالإضافات التقنية والرقمية، فالشكل النهائي للمنتج.

لهذا تجد سيارة حديثة تم بناء هيكلها في ألمانيا، ومحركها في كوريا، وتجميعها في الصين، وبرمجتها في اليابان، وإطاراتها من تركيا، وأصحاب المشروع من الهند والمكسيك وفنلندا وروسيا، كما لاحظنا ذلك إبان الجائحة العالمية عام 2020 مع فيروس كوفيد – 19 عندما شاهدنا كيف كان الصراع على أشدّه من أجل تصنيع دواء مضاد للفيروس، ونشاهده الآن في زمن الروبوتات الفائقة التطور والتحديث. وهو ما جعل كثيراً من العلوم الإنسانية تتخلّف عن الركب التحديثي للعلوم، نتيجة عدم مسايرتها ومواكبتها لكل تلك التطورات.

في مقالة للدكتور مارك تايلور في صحيفة نيويورك تايمز تناول فيها بدون مواربة أزمة تهدد التعليم العالي ومستقبله خاصة في الولايات المتحدة، داعياً إلى أعادة النظر بشكل جذري في برامج الدكتوراة، وطرح فكرة إغلاق تلك البرامج كخيارٍ واقعي بعد أن تضخمت في عديدها وتشعبت في تخصصاتها مقابل ندرة الوظائف، وحيث تكتظ الجامعات بأعداد الطلبة والخريجين من حملة الدكتوراة، الذين لا يجدون وظائف في سوق العمل تلائم تخصصاتهم، فينكفؤون إلى العمل في وظائف مؤقتة أو متواضعة وبأجورٍ منخفضة مع غياب لمفهوم المستقبل والارتقاء الوظيفي ناهيك عن انعدام الأمن الوظيفي. وشهدنا دعوات تتكرر في عديد من المناسبات لتشجيع حملة الشهادات العليا بالانخراط في التدريب والتأهيل على حرفٍ مهنية لا تمتّ لتخصصاتهم ومؤهلاتهم العلمية بصلة. لا بل هناك من يتباهى أنه تم التحاق المئات من حملة الشهادات العليا في التدريب على مهن موجهة بالأصل إلى من لم يكملوا مرحلة التعليم الأساسي.

شهادات لا صلة لها بالواقع المعاش، ونظام تعليمي لا يحسن المراجعة والمساءلة لما ينتجه في مصانع التفريخ الأكاديمية. فلا رابط بين البرامج الأكاديمية وسوق العمل، مجرد ماكنات يتم فيها وضع الطلبة في حواضنها، ليخرجوا من الباب الآخر متشابهين في كل سماتهم كأنهم توائم أكاديمية سيامية، فلا تكاد تميّز هذا عن ذاك في أي شيء. إنها نماذج تعليمية تقادمت وعفا عليها الزمن، لم تعد صالحةً لإنتاج أو فعاليات لمجتمع، بقدر ما أصبحت عالةً وعبئاً يتزايد كل يومٍ دون بارقة أملٍ بحدوث تغييرٍ منشودٍ يعمل على تصويب دفّة التعليم والعمل في المجتمعات المختلفة الحائرة والمسيّرة بروبوتات الجيل الخامس. ولنا عودة.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير