د. وليد العريض يكتب: قالت لي الحياة...هذه وصيتي لأحفادي

{title}
نبأ الأردن -
يا بَنيّ إن مشيتَ في دروب الناس فاعلم أن درب التجربة أطول من العمر وأن الحكمة لا تولد مع الشيب بل تُنحت من كل صفعةٍ دون أن تردّها.
كنتُ يومًا شابًا يظنّ أن الكلمة تُقال لتُسمَع وأن الصمت ضعف وأن الردّ فرضُ كرامة. حتى اصطدمتُ بالناس لا وجوههم بل بباطن ما يُخفون ففهمت… وفهمت كثيرًا.
أذكر رجلاً قد انتفخ كما تُنتفَخ أوداج الديك في الشتاء يلبس كبرياءً لا يليق به ويحدّثني من علوٍ كأنه جبل. ما قلتُ له شيئًا بل نظرتُ إليه كمن يتأمل غبارًا صاعدًا من حفرة وقلت في سرّي: ويحك! كم انحدرتُ من نفسي حتى بلغتك.
ورجلٌ آخر ظنّ خروجه من حياتي هزيمةً لي فقالها وهو يظنّها طلقة: سأرحل. فابتسمتُ وقلت له في قلبي: هل وجدت الباب أخيرًا؟ أم أن الكرامة أهدتك خارطة الهروب؟
ثم كان الذي ظنّ فصاحته مِدرعًا فإذا هو يرشقني بكلماتٍ لا تليق إلا بلسانه فصمتُّ لا عن عجزٍ بل عن وفاءٍ لمن علّمتني: لا تردّ السوء بالسوء فكلٌّ يُخرج ما في بيته.
ويا بُنيّ رأيتُ من توهّم نفسه شمسًا فإذا به ظلٌ ثقيل لا يُنجب نورًا. قال لي مرة: لن تكون الحياة بعدي حياة. فقلت في سري: حقًا… لن تكون بل ستغدو أجمل.
وسُئلت مرة عن اختياراتي وعن ذوقي، وعن سبب اتّباعي لما لا يروقهم. ما جادلت ولا  فسّرت. فقط نظرت وقلت بيني وبين نفسي: كنتُ أعمى حين رأيت فيكم مرآتي.
وكثيرون يا ولدي حاولوا أن يزرعوا فيّ عقدةً عن شكلي و لهجتي وخطي خطّي و صوتي ولباسي واكلي وشربي … ولم يعلموا أني كلما نظرت في مراياهم ازددتُ فخرًا بأنني لستُ هم.
وجاءني من حمل كراهيته كمن يحمل نارًا يظنني سأحترق بها. لكنني كنتُ ماءً بردًا وسلامًا… لا تُطفئه الشحناء بل تزيده اتزانًا.
وإن سألتني عن يومٍ قال لي فيه أحدهم: أعد كلامك إن كنت شجاعًا! فاعلم أنني مررتُ عليه مرور الملوك. فالملوك لا يُعيدون كلماتهم… يُودّعونها.
ولم أنسَ أولئك الذين أرادوني أن أهبط إلى حيث يُسكن الغضب. فأجبتهم بصمتي: الرفق بالحيوانات… لا يكون بالدفع بل بالمرور الآمن.
وهكذا يا بنيّ تعلّمت أن الكبرياء ليس في أن تردّ بل في أن تترفّع. وأن الغضب إن لم تُهذّبه، هذّبك بالندم.
وأن الكلمة الطيبة إن جاءت في وقتها غنيمة. وإن تأخرت فسيّدة. أما الكلمة الجارحة… فمهانة حتى لو غلبت.
علّمتني الحياة… أن الصمت أحيانًا ليس سكوتًا بل صوتٌ أعلى من كل ضجيج.
وأن المواقف إن لم تُربّك فلن تُعلّمك.

11-6-2025
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير