عبدالله بني عيسى يكتب :نحن والحرية وتقديس الخسارة

نبأ الأردن -
يُشهر "المناضلون الرقميون" أقواسهم المشحوذة بالقصائد المعلبة، ويبدأون بإطلاق سهامهم السامة على كل من لا يردد خلفهم تراتيل "الصمود الأبدي" و"الانتصار" و"الكرامة". يلوكون تهماً مثل "العمالة"، و"الخيانة"، و"الخذلان" ببلاغة الشجعان الذين لا يشق لهم غبار، على شاشات مكسوة بالدموع، لكن بلا قطرة دم واحدة على الأرض.
تتحول سفينة مادلين، بين أيديهم إلى صاعق اتهام أخلاقي في وجه كل من لا يقفز في بحر الشعارات ليغسل عاره. فها هو "الغربي" يتفوق على "العربي"، ويهزّ ضمائرنا بجسده، بينما نظل نحن نراقب من على الرصيف ونطلق القصائد.
نعم، التاريخ سيسجل أن غزة ذُبحت على مرأى من العالم، وسيسجل أن إسرائيل نزعت آخر ورقة توت عن مجتمع يؤمن بالسلام والعدالة، وسيسجل أننا – كعرب – كنا في قاع المنحدر. لكن، هل تظنون أن هذا يكفي لتبرئة الذات من حساب الضمير؟ هل تعتقدون أن اجترار العبارات الشعبوية، وتوزيع صكوك الكرامة والخذلان، شكل من أشكال المقاومة؟
تعالوا نتحدث بصراحة، لا صراحة "فيس بوك" و"إكس" و"انستغرام"، بل صراحة العقل المُثقل بالاسئلة الملحة، الباحث عن مخرج من "كهف التقديس".
لماذا لا تملكون شجاعة نشر الفيديوهات التي يظهر فيها الغزيون أنفسهم وهم يصرخون: "أوقفوا هذه الحرب بأي ثمن"؟ لماذا لا ترفعون الصوت مع ذلك الرجل الغزي المتدين ذي اللحية الذي قال إن الكرامة ليست في تمجيد الدمار، بل في إنقاذ هؤلاء الأطفال من الجوع والنسوة من الذل؟ أو تلك المرأة التي قالت "الكرامة هي أن تجد نساء غزة مراحيض تليق بإنسايتهن". هل صوتها يخدش معزوفة الصمود التي أدمنتموها؟
ولماذا لا يُطرح السؤال الحقيقي: لماذا لا تنهي حماس هذه الحرب؟ لماذا لا تُقدم على قرار جريء تُنقذ فيه ما تبقى من غزة، وهي تعلم أن الثمن هو في خروجها من المشهد "ميدانياً على أبعد تقدير"؟ لماذا لا تُسقط الورقة الأخيرة من يد العدو – ورقة الرهائن – فتقطع عليه تسويغ القتل؟ أم أن التنظيم، وأعني بذلك كل تنظيم، صار أكبر من الناس، أكبر من الحقيقة، أكبر من الوطن؟.. ألا ترون أن ما يحول دون قرارات أكثر جرأة من المجتمع الدولي، هو وجود "الرهائن" في أيدي حماس؟ فلماذا لا تنزع الحركة هذه الذريعة ونضع العالم في مواجهة استحقاقات قانونية وأخلاقية دون أية ألتباسات؟.
كيف يُعقل أن نطالب العالم بنقد إسرائيل، ونحن لا نملك الجرأة على نقد أنفسنا؟ كيف نُصفّق لإدامة الحرب بينما ندّعي أن أطفال غزة شهداء الكرامة؟ ونقبل بكونهم "قرابين" في سبيل الأمة كما يراهم قائد حركة حماس. من منحنا الحق بأن نتحدث باسماء أمهاتهم؟ هل سألناهم أصلاً إن كانوا يريدون أبناءهم قرابين على مذبح البطولة؟
لن نكون مجتمعاً سوياً طالما لا نملك الشجاعة لمساءلة "المقدسات السياسية"، كما نجلد الحكومات والمجتمعات. لن ننهض ونحن نحاكم كل من ينادي بالعقلانية وسط هذا الهياط والجنون على أنه خائن، ونجعل من أدوات الحرب والمواجهة الخاسرة حتماً طهراً فوق النقد.
ما نحتاجه اليوم هو اجتراح شجاعة جديدة؛ لا تلك المتأهبة للحرب، بل التي تفتح العقل المغلق، تقتلع آلهة الشعارات من على العروش والشاشات، وتنظر للواقع كما هو: معقد، مؤلم، محيّر، لكن لا يُحتمل إلا إذا توقفنا عن صناعة أوهام البسالة التي تموت تحت الركام، وتُدفن دون أن تحظى حتى بحق السؤال. إلا أذا آمنا بأن الكرامة هي ألا يموت طفل حرقاً أو سحقاً لعظامه الطرية، إلا إذا آمنا بان الكرامة هي ألا يجوع 2 مليون إنسان فيموتون قهراً. الكرامة هو ألا يحصل كل ما يحصل.