ميسر السردية تكتب: مقشّة الوطن

نبأ الأردن -
بدأت الصداقة، التي توطدت لاحقًا، عندما رأيته جالسًا يستظل تحت شجرة أمام البيت. راقبته، وقد أزاح الشماغ عن رأسه، وراح يبلّله من عبوة مياه في يده، لا شكّ أنها ساخنة، لا تبرّد ذلك الحرّ الملتهب.
حملتُ إبريق الشاي وكأسين وذهبتُ إليه، والشاي كان وما يزال مشروب الضيافة الرسمي لي كقروية، صيفًا أو شتاءً... وهكذا دخل "أبو نعيم" — عامل الوطن — ومفارقات حكاياه في حياتي.
كان "أبو نعيم" يتهكّم عندما أقول له: "أنت عامل وطن، ندين لك بهذه النظافة"، فيميل بشدقيه، كاظمًا على سيجارة، ساخرًا، ويقول: "أنا كَنّاس، أكنس زبالتكم من خمسطعش سنة، كل يوم، ما تغيّر لا عليكم ولا عليّ شي".
مع الأيام، صرتُ مستودعًا لأبي نعيم، الذي ينطبق عليه وصف يُطلق على من يتصرفون ويحكون ويتعاملون مع الأحداث بطريقته: "خَبَل ذهين"، فلا تستطيع الجزم: هل الرجل شديد الذكاء، أم أنه محدود الإدراك، "على البركة"؟ أسراره وأغراضه، كلها تصبّ عندي، فمنسوب الثقة تجاوز ثقة مجالس النواب بالحكومات المتوالدة. حتى شتائمه، التي يوجّهها "للمهندس المسؤول عنه" كما يدّعي، والذي ما زلت أجهل اسمه، يُسهب بها أمامي دون وجل، وإذا رأى أحدًا من الجيران، عضّ على شفته وقطع الحكي... "لعلّ أحدهم يعرف المهندس... شو عرفك، برضو الدنيا صغيرة".
جاء ذات يوم يجرّ "بسكليت" يناسب فتى بعمر المراهقة، قال: "بدي أحطّه عندك حتى أكمّل طلعة الشارع".
سألته: "من أعطاك؟ وما نفعه؟ ولا ولد عندك أصلًا!"
ردّ: "هذا من أبو طيف العراقي، باع الفيلا وبدّه يرحل على 'كندا'، وبعدين بدي ياه نقوط لأختي لما تخلّف ولد...".
مرة أخرى، أودع عندي "قلن" زيت ذرة، وكيس رز، وشوالًا آخر "مَنْبوط" ملابس، أيضًا حتى ينتهي من عمله.
قلت له: "يا زلمة، هذا الزيت والرز منتهيا الصلاحية! من هذا الذي أعطاك أشياء كان من المفترض رميها بالحاوية؟"
سخر كعادته: "هاي من أم جهاد، رجعت أمس من الخليج ونفّضت الدار... ما عليكي، إحنا بنفرم فرم، ما بنموت من رز مسوّس، ولا من زيت منتهي 'المصلوحية'!".
"أبو نعيم" ليس متزوجًا، ولا يفكّر بذلك أبدًا. له أخت تزوّجت من زميلٍ له قبل أكثر من عام، ولأنه لا يطمئن لزوجها، أودعني ثلاثمائة دينار، كل شقى عمره كما ادّعى.
قبل موسم الحج بأيام، طلب الأمانة. كانت الفرحة تبرق من عينيه. قال، منتفخًا كـ"الواصلين" في حياتنا، إنه، وعن طريق معارفه، تحصّل على حِجّة، ولن يدفع قرشًا من تكاليفها. وأما حاجته للمصاري الآن، فهي لشراء هدايا لأخته، ولابنها، الذي لا بدّ من أنه سيأتي قريبًا، وهديّتي بالبال طبعًا.
قال: "إنتِ تعرفي، الحياة فيها حياة وموت... وصّيت فطومة، إذا متّ، أمانة، سَمّي الولد 'نعيم'...".
باركتُ له، وطلبتُ منه الدعاء والمسامحة. مدّ لي المقشّة، متمتمًا: "أهل السماح يا ملّاح..."
– "طيب، ضعها تحت الدرج، ما حدا رح يستخدمها..."
– "لا، بدي تحطيها جوا عندكم بالدار".
– "طيب، ولا يهمّك يا سيدي... بالحفظ والصون والعفاف".
بعد أن مضى خطواتٍ قليلة، التفتَ وراءه: "يا دولة!" — هكذا كان يلقّبني، غامزًا ولامزًا —
"ديري بالك عليها... ترى هاي المقشّة عهدة، مش من مال أبوي...".
أمس، كنتُ أفكّر: متى يعود ويريحني من هذه العهدة، التي طالما وسوست لي نفسي بكنس مدخل الدار بها، كسرًا لمعنى العهدة، وتجربةً لـ"مقشّة الوطن"..