د.وليد العريض يكتب: السيد والعبد.. حوار في حضرة التفاهة!

نبأ الأردن -
في غابة بعيدة على حواف التاريخ حيث الضباب لا ينجلي إلا ليعود أكثر كثافة كان هناك ثعلب سمّاه الجميع (بالسيد) ووقواق لا يكف عن التصفيق والهزّ بالرأس عُرف بين الحيوانات (بـالعبد).
لم تكن العلاقة بينهما علاقة سلطة بقدر ما كانت رقصة دائمة بين أمرٍ متقلّب وتصفيقٍ دائم.
السيد لا يعرف ماذا يريد والعبد لا يعرف كيف يعارض ومن هذه الثنائية المريبة وُلدت ملهاة أو لعلها مأساة نسجتها الحيوانات على هيئة حكاية سُميت لاحقًا: كوميديا النفاق السامية.
في أحد الأيام صاح الثعلب من شرفته العالية:
أحضر العربة! سأذهب إلى قصر الأسد!
صفّق الوقواق بحماسة:
رائع يا مولاي! الشمس نفسها ستنحني لمقدمك والأسد سيفرش لك رداء الرضا!
لكن الثعلب عبس فجأة وقال:
كلا لن أذهب.
فابتسم الوقواق بسرعة البرق:
أحسنت التفكير، مولاي! القصور مصائد والأسود لم تعد تعرف الفرق بين الضيوف والفرائس.
مرّت لحظات فصرخ الثعلب مجددًا:
أريد أن آكل! أحضر لي الطعام.
قال الوقواق وهو يقدّم طبق الفواكه:
طعام مبارك يا سيدي! حتى الإله شمش سيتبسم من رائحة مائدتك!
لكن الثعلب دفع الصحن بعيدًا:
لا لا شهية لي.
فصفّق الوقواق مجددًا:
قرار حكيم! الجوع صفاء والصيام حكمة والمعدة بيت الأمراض.
ومع كل تقلب كان الوقواق يجد في التحول فرصة لمديح جديد لا يقل حماسة عن سابقه.
قال الثعلب:
أريد الخروج للصيد إلى البرية!
يا للروعة يا مولاي! الغزال ينتظرك ليُفتخر بأنه قُتل بسهمك!
ثم عاد الثعلب ليقول:
بل لا. لا رغبة لي اليوم.
فأجاب الوقواق فورًا:
حكمة بالغة فالغابة اليوم موبوءة بالمقاطع المصورة!
وفي ليلة أخرى قال الثعلب وقد انتفخت أوداجه:
سأشعل الثورة! سنطيح بكل من سبقونا!
فهلل الوقواق:
القصور للثوار! فلنُسقط العروش ونبني أحلامنا!
ثم غيّر الثعلب رأيه كعادته:
لا لا حاجة للثورة الآن.
يا للروية! كل ثورة قبل أوانها تتحول إلى حريق بليد.
حتى في الحب حين قال الثعلب:
أريد أن أحب امرأة!
ردّ الوقواق بانبهار:
الحب نعمة السماء والأنثى تنعشك مثل عطر الربيع!
لكن الثعلب تراجع:
لا الحب متعب.
فقال الوقواق فورًا:
برافو مولاي! النساء دوامات والقلوب لا تحتمل السباحة!
واستمر الحال على هذا المنوال
كل قرار كان يمشي فوق جثّة القرار السابق والوقواق دائم الهتاف يتلوّن أسرع من ضوء.
وفي ليلة قال الثعلب:
سأقدّم قربانًا للإله!
يا له من فعل نبيل السماء ستبعث لك المطر والرضا!
لكنه تراجع:
لا لا فائدة من القرابين.
أجل الإله لا يملأه قربان واحد… سيطلب منك أكثر غدًا!
ثم جاءت ذروة السخرية حين قال الثعلب في لحظة نادرة من التساؤل:
يا عبدي، ما الخير إذن؟
نظر إليه الوقواق ساكنًا لأول مرة وقال:
الخير؟ أن تُكسر هذه الحلقة… أن يُدق عنقك وعنقي معًا ونتحرر من عبث هذه اللعبة.
صمت الثعلب طويلًا ثم قال ببرود:
– كلا. سأقتلك أنت فقط.
ابتسم الوقواق:
افعل يا مولاي لكن صدقني… لن يحتملك عقلك وحده ثلاثة أيام بعدي. ستشتاق لصوتي قبل أن تشتاق لظلّك.
ثم مات الوقواق.
حين غادر الصدى
في اليوم التالي جلس الثعلب أمام البركة وحدّق في وجهه كثيرًا. لم يعرفه.
لم يكن هناك من يقول: أحسنت.
لم يكن هناك من يبرر أو يمدح أو يعارض بلطف.
جرّب أن يصرخ وأن يأمر وأن يثور و أن يحب
فلم يستجب له أحد.
وفي تلك اللحظة ترددت في قلبه آخر كلمات وقواقه الراحل:
المرايا لا تتحدث لكنها لا تكذب.
قال الثعلب لنفسه كأنما يكتشفها لأول مرة:
– كنت أظنه عبدي فإذا بي كنت عبده.
ثم أطلق صرخة أخيرة في الغابة .. صرخة لم يفهمها أحد
لكن الطيور طارت من أعشاشها والثدييات اختبأت
وعرفت الأشجار أن شيئًا قد انكسر…
فالنفاق مات والصدى انقطع.
لكن السؤال بقي:
من يحكم من؟ ومن يخدع من؟
في رقصة السيد والعبد… لا أحد بريء.