ميسرالسردية تكتب: دق خشوم

{title}
نبأ الأردن -
"كل إناءٍ بما فيه ينضح" — هذه ليست شتيمة، وإنما توصيفٌ حقيقيّ لما بداخل كل إناء، أكان ذلك مفيدًا طيّبًا صافيًا، أو ضارًّا مرًّا عكرًا. وبذلك، نستطيع قول هذا المثل الذي يحمل في مضمونه حكمةً منطقية تشير إلى أن الإنسان يُظهر ما بداخله من صفاتٍ وأخلاقٍ وأفكار، تمامًا كما الإناء إذا حُرِّك أو سُكِب.

والمثل هنا لا يُوصَف به شخص فقط؛ إذ قد يُقال أيضًا عن جسمٍ معنوي، كالهيئات والجمعيات والنقابات كذلك. فهذه مكوّنات تُشبه أواني صغيرة من أفرادٍ سُكِبوا وشكّلوا الإناء الأكبر. ومن خلال النظر إلى طريقة تصرّف أو تحرّك هذا الجسم وذاك، يستطيع المرء إصدار أحكامه على طبيعة "أخلاط" هذا الإناء.

بعيدًا عن نافلة القول، يلفت الانتباه — غير ذي مرّة — طريقةُ إعلان الفائزين برئاسة بعض النقابات المهنية، واحتفال مؤيديهم، وشعاراتهم، وهتافاتهم التي يطلقونها لحظة الفوز بعد رفع الفائز فوق الأكتاف. فكانت — في معظمها — لا تخرج عن عقلية الغزو، والكسر، والمغالبة، والمحاربة، والتنكيل بالخصم، واستفزاز مؤيّديه، والنيل من هيبته ومكانته، والتقليل من شأنه. هذا إن لم ينجرّ الجميع إلى عراكٍ بالرّفس، وما تصل إليه الأيدي، حتى يُختتم ما كان يُفترض أنه عمليةُ منافسة ديمقراطية لمكوّناتٍ يُعتَقَد أنها حصدت أعلى درجات العلم، وتمتلك وعيًا تقدميًّا تنويريًّا، ورجاحة عقلٍ وفكر، وسعة صدر، لقيادة شعب، والذود عن وطن.

فما عليك إلا أن تنتظر لحظات، حيث سترى كيف "يُكسَر القلم"، أو "يُمزَّق الروب"، أو "يُلطَّخ المريول"، أو "يُطبِّش الشاكوش" زجاج النوافذ. فتولّي مدبِرًا، كأنك شيطانٌ لا يُلوى وراءه، حيث تحملك ساقاك لأقرب "عطفة" تلبّدُ فيها من صياح "النخبة" الفائزة، وهي تردّد في أعقابك: "دُقّ خشوم، خاوة!"، وقد يصل الأمر إلى: "إحنا كبار البلد!"، و"الهدف مرصود، والرشاش جاهز!".

وأنت، "وحظّك يا أبو الحظوظ"، كيف سينجو جسدك وسمعك وبصرك حينئذ؟ قد تجد سيارة تُهرّبك بعيدًا عن ميدان "المعركة الديمقراطية" و"الروح الأخوية" التي سادت الأجواء "العصرية" بالقرب من صناديق الاقتراع "النزيهة"!

ستستحضر في طريق هزيمتك — أو كما وصموها: "فيقَلّك بالساقط" — صورةَ الانتخابات البرلمانية، "العرس الوطني"، كما تصفه الحكومات دوريًّا. فتحدّث نفسك: لقد حدث أكثر من ذلك... فتحمد الله أنه لم يقع قتلى — مثلًا — فتودّ أن تُسكِت نفسك غير المطمئنّة: "لكن هذه شرائح أخرى، يُفترض أنها زبدة الشعب"، تختلف عن انتخاباتٍ شعبيةٍ عامة، حيث كثافة الجمهرة، والتحشيد المليوني، الذي تؤثّر فيه المناطقية، والعشائرية، وروح: "أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمي على مرّاق الطريق".

تتذكّر عمّك ابن خلدون، رحمه الله، حين قال: "العرب متنافسون في الرياسة، وقلَّ أن يُسلِّم أحدٌ منهم الأمرَ لغيره، إلا في الأقل، على كُرهٍ، من أجل الحياء". وهناك، سيطلّ خالك الكواكبي، رحمه الله: "ألم أقل لك إنه لا يُولّى المستبدون إلا على المستبدين؟"

وعند ختام يومك الديمقراطي، سيبتسم لك، من مجاهل البيرو، صديقك الروائيّ والصحفيّ ماريو فارغاس يوسا، ويقول لك: "كلّنا في الهمّ درجة ثالثة، فشهوة السلطة يمكن أن تدمّر عقلًا بشريًّا، وتدمّر مبادئ وقيمًا، وتحوِّل البشر إلى وحوش صغيرة".

لسّه الدرب طويل، يا عزيزي المُنخرِط ديمقراطيًّا، ... وهذا ما يرشح من أوني "النخبة" حتى اللحظة من تعليمنا، وثقافتنا، وتراثنا، وعصريّتنا في مرحلة "دق خشوم".
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير