جهاد مساعدة يكتب: الكتابة تبدأ بالحذف

{title}
نبأ الأردن -
حين أجلس للكتابة، لا أُثقل كاهلي بسؤال: ماذا أكتب؟
بل يلاحقني طيفٌ أكثر فتكًا: ماذا سأحذف؟
فالكتابة ليست تكديسًا للكلمات،
بل تهذيبًا لها، وتقليمًا، وتجريدًا من الزوائد،
حتى تتجلّى كجوهرٍ لا تشوبه شائبة.

في زمنٍ تُغري فيه المنصات الرقمية بالإفاضة،
يصبح الحذف فعلًا مقاومًا،
وعيًا مضادًّا للفوضى،
وموقفًا جماليًا يسبق الجُمل ذاتها.

لقد تعلّمتُ من أساتذتي كيف أكتب،
لكن أحدًا لم يُعلّمني كيف أمحو.
ورأيتُ أن الكتابة الحقيقية لا تولد من لحظة الإلهام،
بل تبدأ من إعادة الكتابة…
حيث تكون الجملة الأولى شكًّا،
والثانية اختبارًا،
والثالثة بقاءً بعد محو.

تعلّمتُ أن أكتب في النهار،
وأحذف في الليل،
وأن ما يُكتب لا يُقدَّس،
بل يُعرض على محكمة الحذف؛
فإمّا أن يبقى، أو يُمحى بإرادةٍ واعية.

أدركتُ أن بين السطر والمساحة البيضاء
روايةً كاملة،
وأن في الحذف متعةً لا تقلّ عن البوح،
بل لعله البوح الأكثر صدقًا؛
فما لا يُقال أبلغُ أحيانًا مما يُقال،
وأن تترك ثغرةً يتسلّل منها القارئ
خيرٌ من أن تُغرقه بفيضٍ لا يترك له مجالًا للتأويل.

أعتبر الحذف طردًا للأشباح:
تلك الكلمات الزاحفة التي تتسلّل إلى النص بلا لزوم،
وتلك الجمل التي تفضح المعنى أكثر مما تخدمه.

وفي كل كتابة،
أرتّقُ النصوصَ لا بزيادةٍ،
بل بنقصٍ مدروسٍ؛
فالحذفُ عندي فعلُ تحريرٍ،
وتطهيرٍ من الاستعراض،
واحتفالٌ بما لم يُكتب.

قد يسأل سائل:
أليس في هذا قسوةٌ على النص؟
وأجيب:
بل هو الرحمة التي تُنقذ المعنى من الغرق،
وتمنح النص روحه المتوهّجة.

فالحذف ليس كبحًا للإبداع،
بل حراسةٌ له من الانفلات،
وليس خنقًا للقول،
بل صيانةٌ للمعنى من الترهّل.

في زمنٍ تُقاس فيه الكتابة بعدد المشاهدات،
وطول المنشورات،
أقولها بهدوء:
الكتابة الحقيقية لا تُقاس بما نُشر،
بل بما اختار الكاتب ألّا ينشره.

وبكل يقين، أُردّد:
الكتابة تبدأ بالحذف،
لأننا لا نكتب لنُدهش،
بل لنُضيء.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير