عبدالله بني عيسى يكتب : بعد اليوم العصيب!

نبأ الأردن -
تجاوزنا يوماً عصيباً وقاسياً على البلاد، أظن أنه خُطط له بعناية في واشنطن. كان اللقاء مع الصحفيين مباغتاً، والسيناريو المُعد في عمان، مبني على تحاشي الصدام المباشر مع رجل بلا قيم ولا يمكن توقع أقواله وأفعاله مثل ترمب، وهو سيناريو حكيم ومدروس. البيت الابيض كان له رأي آخر. ربما تقصّد إحراج الأردن، ربما تقصّد حالة البلبلة التي نعيشها منذ ليلة أمس، ربما تقصّد زرع أسفين يستهدف الثقة بين الدولة والمواطنين، وأخشى أن ينجح في ذلك، حين تمعن رادارات السخط والتبرم من كل شأن في التقاط الأمر والنفخ فيه بشتى أنواع وأشكال العُقد النفسية والقومية، وتضخيمه ونقله إلى مستويات متقدمة من التشكيك والتخوين أو التهوين.
حسناً، واضح أن ردة فعل الأردنيين على اللقاء بين الملك وترمب، لم تكن ايجابية، وثمة موجة من عدم الرضا يعبر عنها كثيرون في منصات التواصل الاجتماعي، أحياناً بلغة سياسية رصينة، وأحياناً بكثير من الفجاجة والسطحية.
لن أقدم قراءتي الخاصة لمجريات لقاء البيت الأبيض، وهي بالضرورة لا توافق المزاج العام "الفيسبوكي” في الأردن، لكني سأذهب في الجدال إلى زاوية أخرى، تعيد الأمور إلى أمكانها الاولى، إلى المسببات قبل النتائج. وهذا ليس من قبيل النبش المجاني في ماضٍ لم يعد بالإمكان استدراكه، أو أخطاء عادية يمكن معالجة نتائجها بقليل من الدبلوماسية والطبطبة.
الذين يمعنون في المس بكرامتنا الوطنية منذ الأمس، والإساءة لرموز البلاد السيادية على نحو يعيد انتاج كليشيهات التخوين التي بتنا نتقزز منها ومن الذين يقفون خلفها بسوء نية جلية، آن لنا أن نتوقف عن مجاملتهم، أن نتكاشف ونتحاسب، ونفرد الدفاتر على صفحاته المفتوحة كل أشكال الإخفاق والخذلان، ليعرف كل منا دوره ومكانه.
لسنا من انتخب ترمب وجاء به إلى البيت الأبيض. لسنا من صوّت للجمهوريين، بعدما خانتنا الحسابات ودفعتنا ماكينات الإعلام الغبية والعنتريات للاعتقاد بأن إدارة بايدن هي الأسوأ وغيره أرحم. ولسنا من جاء باليمين الإسرائيلي إلى مستوى القرار والعبث والإجرام في تل أبيب، ولسنا من تسبب في الانقسام الفلسطيني، الذي بات حجّة للعالم للتملص من التزاماته القانونية والسياسية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، ولسنا المسؤولين عن حالة التشظي العربية والظروف التي دفعت بالكثير من البلدان إلى الانكفاء أوالبحث عن أذرع إقليمية ودولية لتحتمي بها من شر القريب وغدر القبيلة.
بل لسنا من نفّذ هجوم 7 اكتوبر أو خطط له أو دعمه أو علم به وصمت، وقد أصبح عنواناً لأكبر كارثة حلّت بالمنطقة. فإذا جاء اليوم الذي صار لزاماً علينا أن نتعامل مع تداعياته المرعبة بسياسة الممكن والأقل ضرراً، صرنا نحن من نخذل ونتنازل ونتآمر ونخيّب الظن. لا يا سيدي من خذل هو من ارتكب الخطأ الخطيئة، من خان هو أوصلنا إلى هذا المستوى من الهوان، من تآمر هو من لم يحسب جيداً نتائج أفعاله.
يفكّر الأردن بعقلية الدولة، لا بعقل الميليشيا ولا الجماعة ولا الفئة، ويفكّر بعقل موزون هادئ غير صدامي يستند إلى إرث غني كبير في الدبلوماسية. صحيح أن العمل الدبلوماسي المتمسك بالقيم والقوانين الدولية، قد يواجه تحديات واخفاقات في بعض الفترات، لكنه يبقى ترساً يحمي من غطرسة البعض وشططهم وتطرفهم، بطريقة سلمية حكيمة، وهو أمر أزعج المزاودين و”الحربجية” والمتربحين والمتشنجين في موسمهم الاهم، موسم المصائب الذي نعيش.
الأردن لا يقول للشقيق والجار والقريب والمحيط العربي، "كل واحد يقلّع شوكه بإيده”، لأنه يتحمل مسؤولية أخلاقية وقومية وإنسانية تجاه كل القضايا العادلة، لكنه في المقابل لا يمكن تحميله وزر كوارث المنطقة ومشكلاتها التي لا تنتهي، والتي صنعها آخرون بأيديهم عن سبق إصرار وغباء وربما بحسابات ملتبسة.
قليلاً من العقل والتعقل، فنحن مقبلون على أيام ربما تكون الأخطر في تاريخ هذه المنطقة، فلا أقل من الانتفاض إنصافاً للبلاد، وصوناً وحماية لها من مخاطر أصبحت وشيكة. الأردن أحوج ما يكون الآن إلى خلق حالة من الوئام الداخلي لمواجهة العواصف، وعلينا أن نثق بالدولة وقيادتها ومؤسساتها، فهي حصننا الأخير حتى لا نسقط في شباك الخديعة المرادفة لكل أشكال الفشل والضياع، وأن نبني خطابنا على العقل والحكمةوالاتزان لا العنتريات والإنشائيات واللطميات.