د. ماجد الخواجا يكتب : وأية ملحمة تسطرونها

{title}
نبأ الأردن -

مشهد سيسطره التاريخ بماء الفخر والعزة والكرامة، مشهد ملحمي تعجز عن توثيقه وإنشاده الألياذة وأوديسه، وأية أسطورة عابرة للعذابات والمعاناة البشرية. أكثر من 400 ألف فلسطيني هم أبناء وأحفاد من تم تهجيرهم عام 1948 فلجأوا حينها إلى شمال غزّة باعتبارها كانت الأقرب لقراهم ومدنهم التي تم اغتصابها، لم يخرج أي فلسطيني بعيداً عن قريته، في كل مرّة كان يتم ابتعاده وتهجيره من ما بين لجوء ونزوح وشتات، كان متشبثاً بحلم العودة وبمفتاح أصابه الصدأ لبيتٍ ربما لم يعد موجوداً، لكنه الحلم الفلسطيني الذي طال أمده ليمتد عبر 75 عاماً من الانتظار.

400 ألف فلسطيني ساروا في مسارٍ محددٍ ومشياً على الأقدام في رحلة العودة إلى بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا العز، يعلمون تماماً أن بيوتهم قد تهدمت وسويت بالأرضن وأنه لا تتوفر أدنى مقومات الحياة الأساسية، سيفترشون الأرض ويلتحفون الفضاء بصحبة ليالٍ شديدة البرودة. ماذا يعني مشياً على الأقدام من جنوب غزة إلى شمالها، يعني ببساطة أنه من عند حاجز نتساريم والخط الفاصل بين الشمال والجنوب يمتد بمسافة تقدر 15- 20 كم، هذه المسافة قطعها مئات الآلاف من النساء والحوامل والأطفال وذوي الإعاقات والفتيات والذين يعانون من أمراض مزمنة وكبار السّن الذين ربما عاشوا أكثر من نكبة ومن نكسة ومن لجوء وتهجير.

مشهد اهتزت له القلوب والمشاعر، فالوطن ليس مجرد جدران وحواري، إنه الساكن في المخيال الجمعي للشعوب، إنه التعبير الحي للهوية والانتماء.

يعودون هكذا بدون أية ممتلكات وأية مقومات، فقط يحملون حلمهم ووجعهم ويسيرون حسب مقدرة كل منهم، يريدون التشبث ببقايا تفاصيل عابقة في الوجدان.

راهن العدو على أن الفلسطينيين سوف يتلاشون ويذوبون في الصحارى العربية، كان هذا تصريح بن غوريون عندما أعلن قيام دولة الكيان الغاصب، قال أن الكبار سيموتون، وأن الآباء سينسون، وأن الصغار لن يتذكرون. مات الأجداد وكثيراً من الآباء، وولدت أجيال وأجيال في زمن اللجوء والمخيمات، ولم تكن فلسطين بهذا التوهج وقرب التحرير لها كما هو الحال الآن.

يعودون كأنهم في رحلة سياحية لأفخم المنتجعات، لا يبيعون فرحتهم بأموال الدنيا، استوقفني ذاك ابن جباليا حين أوقفه المذيع في الطريق إلى جباليا حيث قال: تهجرنا من جباليا وكان معي طفل واحد، الآن أعود لجباليا وقد أصبح عندي ولد ثاني جاء في فترة التهجير.

من لم تهزّه مسيرة العودة العظيمة، فليشاهد تعابير بن غفير وسموتريتش اللذين أصابهما الجنون من المشهد.

في طريق العودة سيعجز البعض عن مواصلة السير، سيمرض كثيرون، سيتعب البعض، سيموت عدد منهم، لكنهم جميعاً أثبتوا فشل الرهان على إخلاء غزّة من السكان.

لا منازل تأويهم، لا خيمة تقيهم، لا ماء، لا كهرباء، لا طعام، لا تدفئة، أنا لا أتحدث عن ترف ورفاهية وجود مراكز صحية وتنمية اجتماعية ورعاية ذوي الإعاقة ومدارس وجامعات ومؤسسات تدريب وسوق تجاري وفرص عمل وتوفر نقود وسلع، فهذه أصبحت خارج حسابات غزّة.

ملحمة فلسطينية إنسانية تعبّر عن الأمل الإنساني والإنحياز للحق وللحرية وللكرامة.

فأية ملحمة صنعتموها وأية مسيرة أسطورية رسمتموها.

تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير