عريب الرنتاوي يكتب: حدود الاتفاق والافتراق بين أضلاع المثلث الروسي-التركي-السوري
ما الذي يثير حماسة موسكو للتقريب بين أنقرة ودمشق؟
يرى الكرملين أن مصلحة بلاده، كسب ودّ تركيا، وضمان موقفها "المحايد" في الأزمة الأوكرانية، وتوسيع شقة الخلاف بينها وبين الغرب، الولايات المتحدة أساساً، وتفادي انخراطها في أنشطة "الناتو" التي يرى الكرملين أنها تستهدف تطويق روسيا وعزلها واستنزافها، وبهذا المعنى، فإن استجابة الرئيس بوتين لدعوات نظيره التركي تطبيع العلاقة مع دمشق، تُعد خدمة لرجب طيب أردوغان، وهو يقترب من مفترق طرق انتخابي حاسم بعد أقل من ستة أشهر.
القراءة الروسية للمشهد التركي الداخلي، تفصح عن رغبة حقيقة بفوز أردوغان بولاية رئاسية إضافية، وبقاء حزبه، العدالة والتنمية، في سدة حكم البلاد...الكرملين يخشى هزيمة الطبقة التركية الحاكمة، ومجيء معارضة معروفة بقربها من الغرب وواشنطن ولا تخفي نزعاتها الأطلسية، ولهذا فهو على أتم الاستعداد لتقديم أية خدمة ممكنة لبقاء أردوغان على كرسي الرئاسة، دون المساس بالطبع، بأعمق مصالح حليف موثوق له في دمشق.
على المدى الأبعد، يراهن الكرملين، على تنسيق وتعاون بين دمشق وأنقرة، لمواجهة "الجيب الكردي" في شمال سوريا الشرقي، ليس لأن لروسيا موقف مناهض للأكراد، فقد سبق لها في "أستانا 2" أن عرضت نظاماً فيدرالياً لسوريا، رفضه النظام والمعارضة سواء بسواء، بل لأن "قسد" باتت قاعدة الارتكاز الرئيسة للوجود الأمريكي في تلك البقعة، ومن مصلحة موسكو، الاستثمار في العداء السوري – التركي المشترك لقوات سوريا الديمقراطية، بهدف إحراج الوجود الأمريكي، توطئة لإخراجه.، وذلك من ضمن رؤية أوسع للصراع الكوني بين روسيا والولايات المتحدة.
لماذا يهتم أردوغان بالتطبيع مع سوريا؟
لتركيا ثلاث مصالح استراتيجية في سوريا، يسعى أردوغان في العمل على صيانتها وتطويرها، وفي أقل تقدير، وضعها على "سكة الإنجاز" قبل الانتخابات الرئاسية الحاسمة في يونيو المقبل:
أولها؛ تبديد ما تعتقده أنقرة، تهديداً إرهابياً لأمنها واستقرارها وسلامة وحدتها الترابية، تمثله "قسد" وأكراد سوريا، الذين يدين معظمهم بالولاء للمعارض الكردي عبد الله أوجلان، ولا يخفون صلاتهم بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا، وتدور بين مقاتليه والسلطات في أنقرة، معارك كسر عظم لأكثر من أربعة عقود...الأتراك يراهنون على "مخاوف" الأسد من الحركة الكردية ، السياسية والمسلحة، ويسعون للاستثمار في هذه المخاوف، وينوون اختبار فرص التعاون مع دمشق، للإطاحة بهذا الجيب، سياسياً وعسكرياً، وتفكيك بناه التحتية وقواعده "شبه الدولاتية" في تلك المنطقة...هذه نقطة محورية في التفكير الاستراتيجي التركي.
ثانيها؛ بعد أن تحولت قضية اللجوء السوري في تركيا، من ورقة بيد أردوغان وحزبه ضد النظام من جهة، وضد أوروبا من جهة ثانية، باتت عبئاً عليهما في أية انتخابات مقبلة، هذه القضية تحوّلت من ذخر إلى عبء على صناع القرار في أنقرة، أزيد من 3.5 مليون لاجئ سوري، باتوا يحتلون مكانة مركزية في الحملات الانتخابية، والمعارضة تستثمر في هذه الورقة، وتَعِد جمهورها بتوظيف علاقاتها المستمرة مع دمشق، لضمان عودة سريعة لهؤلاء إلى سوريا، طوعية كانت أم إجبارية، وهو أمر يجد صدى كبيراً لدى جمهور الناخبين، بالنظر لتفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا، وتكاثر المشكلات الاجتماعية وتفشي "ُثقافة الكراهية" للأجانب...أردوغان يريد أن يخرج ببيان تركي – سوري مشترك، يرسم خريطة طريق لعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، أقله لتهدئة روع الناخب، وإشعال ضوء في نهاية نفق اللجوء السوري الثقيل اقتصادياً واجتماعياً.
ثالثهما؛ مصلحة اقتصادية، وتتشعب على مسارات عدة، التجارة الثنائية، تجارة الترانزيت، البحث عن حصة في إعادة إعمار سوريا عندما يحين الوقت لذلك، ملف الطاقة، رهان على النفط والغاز السوريين في شرقي المتوسط، سيما بوجود أرقام واعدة عن حجم المخزون السوري منهما، رغبة في استقبال "أنابيب النفط والغاز" شرقي المتوسط، من إسرائيل مروراً بلبنان وانتهاء بسوريا، وتحويل تركيا إلى "منصة-Hub" كبرى، لا تعتمد على النفط الروسي فحسب، بل وعلى نفط شرق المتوسط كذلك.
هذه النقطة بالذات، النفط والغاز، لا شك تثير "قلقاً" في موسكو، التي تريد "الاستفراد" بالأسواق الأوروبية للطاقة، لكنه تهديد متوسط الأجل، وربما بعيد الأجل، في حين تواجه موسكو تحديات فورية وضاغطة على خلفية حربها في أوكرانيا وعليها، وهي تبدو مستعدة، على ما يبدو، لترجيح التعامل مع ما هو فوري وآني من هذه التحديات، على أن أمل أن يأتي المستقبل، محمّلاً بظروف جديدة وحسابات مختلفة.
لماذا جنح الأسد لخيار "التطبيع" وما الذي يتطلع لتحقيقه؟
بخلاف موسكو، تفضل دمشق التريث على مسار التطبيع مع أنقرة، الأسد يأمل أن يتمكن أصدقاؤه في المعارضة التركية من الوصول إلى سدة "القصر الأبيض" في أنقرة، وهو سبق وأن أبلغ الوسيط الروسي، بأن قمة ثلاثية تجمعه ببوتين وأردوغان، ممكنة بعد الانتخابات وليس قبلها...الرسالة السورية واضحة: اتفاق مع المعارضة التركية، سيكون أفضل بكثير من اتفاق مع السلطة القائمة حالياً، سيما بعد أن كشفت المعارضة جميع أوراقها في هذا الصدد، وأعلن بعض قادتها استعدادهم حتى لدفع تعويضات لسوريا عن تدخل بلادهم الضار في الأزمة السورية، وفود المعارضة التركية إلى دمشق، لم تنقطع خلال السنوات العشر الفائتة، في حين يعد اللقاء الثلاثي بين وزراء دفاع وقادة استخبارات سوريا وتركيا وروسيا، حدثاُ غير مسبوق، طيلة العشرية السوداء التي مرت على سوريا.
لكن دمشق، تخشى مع ذلك، أن تجد نفسها بعد يونيو القادم، أمام أردوغان وحزبه وقد أعيد انتخابهما، وهذا ما نقلته موسكو إليها في سلسلة تقديرات حول الوضع الداخلي في تركيا وتوازنات القوى بين كياناتها عشية الانتخابات...المعارضة التركية، أبلغت دمشق أنها آتية للسلطة، وطلبت إليها الامتناع عن "التطبيع الكامل" مع نظام أردوغان قبل الانتخابات، حتى لا يحظى بورقة إضافية تعزز مكانته الانتخابية.
في ضوء انعدام اليقين لدى دمشق بالنتائج المحتملة للانتخابات التركية، وتحت ضغط الحليف الروسي القوي، جنحت دمشق لمسار التطبيع مع أنقرة، لكن لدمشق مطالبها كذلك، حتى لا نقول شروطها، فهي أولاً؛ تريد تعريفاً مشتركاً للإرهاب يتخطى الحركات الكردية إلى أكبر عدد ممكن من فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام، وكان لها ما أرادت في المداولات داخل الاجتماع الثلاثي الأخير في موسكو، لكن الصيغة التي أقرت، جاءت عمومية، لم تحدد أسماء وهويات الفصائل الإرهابية، و"الشيطان كامن في التفاصيل".
ودمشق ثانياً؛ تريد لتركيا أن توقف كافة أشكال الدعم والتسهيلات التي تمنحها لفصائل معارضة محسوبة عليها، وأخرى "جهادية" في إدلب، وسط قناعة سورية راسخة، بأن وقف الدعم والتسهيلات التركية لهذه الفصائل، سيفضي إلى "مواتها" في غضون أشهر معدودات.
وسوريا تريد ثالثاً؛ انسحاباً تركياً من المناطق التي دخلتها الجيوش التركية في قواطع عملياتها الأربع، وفي أقل تقدير، إقرار "جدولٍ زمنيٍ" ملزمٍ لإتمام ذلك الانسحاب، فدمشق تخشى "سياسات التتريك" المعتمدة في تلك المناطق، ولا تريد لها مصيراً مشابهاَ لمصير "لواء الاسكندرون" كما يتردد في أروقتها.
وفوق هذا وذاك، فإن لدمشق مصلحة في فتح نوافذ التجارة مع تركيا، وفتح البلاد لتجارة الترانزيت، وربما جذب استثمارات تركية، فالخانقة الاقتصادية تعتصر البلاد والعباد، ودمشق راغبة في البحث عن أية مخارج، حتى وإن كانت من باب "التعلق بحبال الوهم".
ماذا بعد، أين من هنا؟
قبل عدة أسابيع، رسم الرئيس أردوغان خريطة طريق لتطبيع علاقات بلاده مع سوريا، تحدث عن محادثات أمنية تمهيدية رفيعة المستوى، تبدأ أولاً، وهذا أمر يحصل منذ فترة من الزمن، وهو متواصل باستمرار، تليها محادثات على مستوى وزراء الدفاع، وقد نجح الكرملين في ترتيب اللقاء الثلاثي الأخير، غير المسبوق، ثم لقاءات على مستوى وزيري الخارجية، لتتوج لاحقاً بقمة ثلاثية، يرعاها بوتين ويحضرها إلى جانب الأسد.
حتى الآن، يمكن القول، أن نصف الطريق، أو أقل قليلاً، قد قطع، والمراقبون بحاجة للانتظار بعض الوقت، لمعرفة ما إن كان مولود جاويش أوغلو سيلتقي بنظيره السوري فيصل المقداد، بعدها يمكن توقع التئام القمة المنتظرة بين الجانبين، وليس قبل ذلك.
لا ندري ما إن كان هذا المسار، سيُستَكمل بكامل حلقاته قبل الانتخابات أم بعدها، أردوغان يستعجله والأسد يستمهله...وربما ستساهم استطلاعات الرأي التي ستقيس اتجاهات الناخب التركي وميوله التصويتية، في حسم هذا المسار، تسريعاً أو إبطاءً...وربما يكون الأسد، قد "جامل" حليفه الروسي بالذهاب إلى "نصف الشوط" على مسار المصالحة، مبقياً "ورقة القمة" إلى ما بعد الانتخابات، وربما يكون الرجل بحاجة لكي يتأكد بأن أردوغان عائد للحكم بعد يونيو، وأن من الأفضل له، إبرام صفقة معه قبل الانتخابات، وهو في أشد الحاجة لبعث رسائل التطمين لناخبيه حول مستقبل اللاجئين ومصير أكراد سوريا (وتركيا بالطبع)، على أن ينتظر إلى ما بعد الانتخابات، حيث سيكون "غريمه اللدود"، في وضع أفضل وأقوى...من المبكر تقدير سرعة إنجاز ملف التطبيع بين البلدين، لكن المؤكد أنهما ذاهبان في مختلف الظروف، لطي صفحة "دامية" امتدت لعشر سنوات عجاف.