مي هديب تكتب : النسوية الاستهلاكية

عندما حصلت تلك النقلة النوعية في وعي البشر لدور الذكر في الإنجاب تحقق إعادة الأنثى كأقل من مقدس مطلق، وانطلقنا كبشر لعبادة الذكورة، منحيين الأنثى عن موقعها المقدس المطلق الذي تربعت فيه بوجود وعي يعتقد أن الأنثى مصدر الحياة الأزلي حتى لو عبر الهواء، ثم تحقق لدى البشر وعي يقدم الغيب على الحاضر، آخذاً بإزاحة الحاضر لصالح الغيب، حتى ظهر العلم ليصطدم بالغيب وعبادته، وهنا كانت مشكلة المؤسسة اللاهوتية، فهي اصطدمت بالعلم للحفاظ على سيادة وعي عبادة الغيب أياً كان شكله، وأظهر هذا الاصطدام الكثير من العلل، ولعل أبرزها مداومة مؤسسات اللاهوت على اللحاق بالعلم لتبرر حقيقة ما تحتويه، فأصبحنا أمام اجترار مقاوم للعلم متعدد الهيئات، ويتحدث بالإعجاز، حتى بلغنا مرحلة الهرولة القصوى حين أنتج مفهوم الإعجاز العلمي في البيان الغيبي أياً كانت هيئته.
كل ما تحدثنا فيه أعلاه يعبر عن تحولات في الوعي البشري على شكل صراعات داخل المجتمعات كل المجتمعات بلا أي استثناء، وهي تحولات كبرى وليست مجرد قفزات مزاجية لدى زاوية بعينها، وهنا يصبح السؤال عن النسوية ملحاً من خلال ماذا تقدم النسوية للإنسان ككل، وماهو الصراع الذي تخوضه عبر الإنسان؟
في بداية النسوية وهي التي ظهرت كاستحقاق عمالي وحقوقي يرفض الفصل على أسس لا إنتاجية، أي أن انخراط المرأة الغربية بشكل عام في الآلة الإنتاجية والعلاقات الإنتاجية الرصينة قفزت بوعي المرأة على أساس طبقي واضح، يرفض الفصل بين أدوات الإنتاج ضمن مجموعة لوائح لا تساوي بين أفراد المجتمع على أساس وحدة الطبقة، بل على أساس تفتيت هذه الطبقة بمنح امتيازات مبتورة لجزء منها وهو حق التصويت في بداية الأمر، ثم حقوقاً قانونية أخرى، وهذا يمثل وعي الطبقة بذاتها كمكون عام، لا كفئات متشتتة بالمطلبيات الصغيرة، ما حصل في جسم النسوية هو استلابها لصالح تحييد المرأة كفئة داخل طبقتها بواسطة رأس المال.
هنا تظهر بعض الدعوات الرجعية على شكلين، شكل يدعي أن رأس المال منح المرأة تلك الحقوق داخل المجتمع كي يوسع قاعدة المستخدمين في العمل، وهذا إدعاء لا يوصف بأفضل حالاته إلا كنكتة سمجة تتجاهل عامدة وباستعلاء حجم النضالات التي قدمت عبر المرأة في طبقتها، بل وتعتبر شهيدات الحركة النسوية الأولى مجرد دمى مستلبة الوعي لصالح مؤامرة رأس المال في إعادة إنتاج نفسه بعد الحرب العالمية الأولى، وبصراحة إن استعراض هذا الرأي وتفاعلاته ماهو إلا إهانة لتلك النساء اللائي قدمن كثيراً من التضحيات والنضال لصالح إنهاء تفتيت المجتمع وفق مصالح السلطة المحافظة.
أما الشكل الرجعي الثاني وهو الأكثر تنميقاً، وهو ما يتم تسويقه في مجتمعات دولة ما بعد الاستعمار، وجوب إنهاء التمييز ضد النوع، شكلياً وضمن أي سياق محترم للمجتمع حديثاً، فليس هناك من يقبل التمييز تحت أي ظرف كان، فالحقوق ضمن مفهوم المواطنة هي مسألة غير قابلة للتجزيء والتشتيت، وهذا ما يجعلنا نلجأ إلى أحد أهم المرافعات الفلسفية الإجتماعية لكارل ماركس " المسألة اليهودية" في رفضه لبقاء تدين الدولة على حساب مواطنيها، ومنحهم خصوصية الفئات داخل المجتمع على قاعدة إبقاء حالة من التباعد بين مكونات المجتمع على أساس فئوي لا على أساس طبقي، التخاصية التي جهدت الرأسمالية لإبقائها كحالة دائمة وقائمة في مواجهة الصراع الطبقي، انتقلت وعبر أدوات الرأسمالية إلى مفهوم النسوية والأعراق، وهو ما قد يفسر إعلاء شأن حركة الحقوق المدنية مقابل حركة الفهود السود الأكثر راديكالية في الفهم الطبقي، وذلك ليس انتقاصاً من نضالات حركة الحقوق المدنية، لكنه مجرد محاولة إنشاء خط تمييزي بين مستوى تقدم الوعي لدى كل حركة، وبين الاستخدام البروبغنداي في إزاحة وعي مقابل وعي آخر، ذات السلوك تجده قد نشأ في الحركة النسوية الغربية التي تم جرها عبر أدوات الرأسمالية إلى موقع النأي بالفئة، وتقدمها إلى مواقع خدمة الناهب العالمي في مستعمراته السابقة عبر لعب دور المسوق لبضاعة الحقوق الفئوية، ومشاريع الاقتصاد القائم على معادلة الريادة الوهمية وتقديم النماذج الجاهزة للنجاح، في ناتج نهائي يجعل من المرأة منافس للمرأة في دوامة الريادة بعيداً عن إنشاء وعي إنتاجي بقدر ماهو وعي بالإقراض وديمومته بالجدولة اللانهائية على مستوى الفرد والفرد فقط.
ما يزيد من خطورة هذا التسويق هو ذلك الخطاب الذي ينحي المرأة عن واقع أنها تنبع من مجتمع مستلب الإرادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى على المستوى الأخلاقي، فهي مكبلة بأخلاق المستعمر السابقة ومؤسسته القانونية التي أنشأ عبرها دول ما بعد الاستعمار، بحيث أصبح شكل خطابها قائم على مستوى بنود قابلة أو مطلوب أن يتم تغييرها حسب متطلبات التبعية، لا حسب مستويات التحرر العام وليس الخاص، بحيث تصبح قضية العنف قضية خاصة، وتنحصر نضالات المرأة ضمن هذه القضية، حتى في التعامل مع قضية الأسر لدى الكيان الصهيوني، فإن الخطاب يقوم على أرضية خصوصية المرأة، لا على حقيقة المشروع الرأسمالي عبر الكيان.
في النهاية وبشكل غير نهائي، ما يتم تسويقه عبر النسوية الناطقة بالعربية هو مجرد من الانخراط في اي طموح تحرري عام، بل يتورط في خطاب رجعي يقدم المرأة كأكبر ضحية، ولست أدعي أنها بأفضل حالاتها، لكن أي تحرر خاص في حالة الاستلاب ماهو إلا رفاه استهلاكي يتبعه المزيد من التورط في التبعية.