المحامي بشير المومني يكتب : فندق أبو رسول ..
البارحة كنت في جلسة علاج طبيعي ونتيجة لحالة الارتياح التي شعرت بها خلال تعريض ظهري للعلاج بالتيار الكهربائي يبدو انني ذهبت في غفوة سرعان ما ايقظني منها المعالج لاستكمال عملية تحفيز العضلات الايجابي لتفكيك اسباب الشد الذي نشأ عنه ألم شديد .. صحيح انك تشعر بارتياح لمدة ساعتين .. ثلاث .. لكن سرعان ما يعاود الشد القيام بواجب الألم فيما تتوقع منه أن يسند وقوفك ..
هذه الحادثة ذكرتني بقصة حقيقية حصلت معي .. فقبل ربع قرن تقريبا استدعيت للتحقيق لدى المخابرات .. وكما يعرف أهل الخبرة فلابد من طقوس محددة تبدأ في عملية وصولك القَلِق الى المبنى وخضوعك للتفتيش ومن ثم وضعك في غرفة الاستقبال والتي قد يكون فيها مراجعين آخرين ..
كنت قلقا مما اسمع عن المخابرات .. دولنا العربية تضج باحاديث وروايات الرعب يتناولها الناس بسرية وخوف وقلق ولا يتحدث بها في بعض البلدان احد لكن الجميع يعرف ما يحصل في الفرع .. بت في الليلة السابقة قلقا .. مهموما .. افكر .. فليس لي تجربة .. وفي اليوم الموعود وكأنه القيامة ذهبت مع صديق ليدلني على مكان المراجعة فصدقا لم اكن اعرف اين يقع المكتب الذي كنت مطلوبا اليه فهو ليس بالعاصمة ومعلمها الشهير ( فندق ابو رسول ) ..
في الاردن يقال للصديق الصدوق ( اخو صاحبه ) ولدينا في الاردن عندما يكون من يسير الى جانبك ( اخو صاحبه ) فلا يليق به الخذلان ولا يعيبه سوى ادارة الظهر للصديق وقت الضيق وقد كنت في تلك اللحظات ارى العالم من خرم ابرة .. دخلت بعد التفتيش ودخل معي صديقي وعندما تحرى الاستقبال ( وعرفت انه يسمى مكتب الاستعلامات فيما بعد ) عن هوياتنا طلب عسكري الاستعلامات من صديقي المغادرة .. المفاجأة كانت عندما رفض ذلك وقال ( اجيت معه وبروح معه ) وبعد محاججة ما بين صديقي والعسكري تصرف الشهم بطريقة عجيبة فجلس على الكرسي وقال ( مش طالع ) !!!
يااااا الله ! في كل بلادنا العربية تنحر جملا بعد خروجك سالما من مباني المخابرات إلا في الأردن تحضر طوعا وتجلس في مكاتبهم رغما عنهم !!! المهم وبعد تدخلي ورجائي الشديد من صديقي بضرورة المغادرة ومزجها بممازحة ( انا من سيحقق معه يا ابو راس مو انت .. اطلع برة لا توهرفنا .. ) ضحك وغادر .. يا سبحان الله في الاردن مسموح لك ان تضحك في مبنى المخابرات وفي غيرها من الدول روينا ان المراجعين يسمعون اصوات الرعب وعمليات التعذيب ويسري بابدانهم الوجع قبل وقوعه ..
جلست على احد المقاعد وكان مريحا .. وبدأ مكتب الاستعلامات بالدردشة معي .. احضروا لي الشاي مع زعتر لانهم لاحظوا توتري .. وسمحوا لي بالتدخين .. كانت حرارة الغرفة معتدلة مع اني لم اشاهد مكيفات .. رويدا رويدا بدأت اعصابي المشدودة بالاسترخاء مثل عضلاتي بالعلاج الطبيعي .. واستيقظت على مناداة موظف الاستعلامات لي .. نعم غططت في النوم ! وقال لي المراجعون مع ضحكاتهم بأنني ( شخورت ) ! وتركك رجل المخابرات لتنام .. كما حصل معي في غرفة العلاج الطبيعي تماما .. لقد نمت !
الشعور بالأمان .. بأنني لست غريبا .. ولربما الارهاق من القلق السابق بيوم جعل سلطان النوم يرخي اسداله على جفوني لانام .. لربما المفارقة انك تشعر في لحظة ما انك قريب وانك فعلا في ( دار خالتك ) كما نقول في الاردن وتذكرت قول السياسيين من ابناء التنظيمات بوصفهم لمبنى المخابرات في العاصمة بأنه ( فندق ابو رسول ) نسبة لمؤسس الدائرة ومديرها الاول محمد رسول الكيلاني رحمه الله تعالى والكثير منهم حتى اليوم يشيد برقي الجهاز ..
في الاردن الجميع يعرف الجميع والجميع له ( مونة ) على الجميع وقد تنتهي اعقد القضايا الامنية السياسية بمكالمة هاتفية من شيخ عرب لضابط مخابرات بكلمة ( عندي ) نعم هذه حقيقة .. المهم ان الاردنيين انتجوا مشهدا امنيا مختلفا اسمه ( الدائرة ) وكل اردني يعرف انها بنت اجاويد .. وبنت الاجاويد تسند وقوفك كأردني ولا يمكن ان تصعقك بفعل لتقضي عليك فكهرباء الدائرة للنور فقط .. علاجها الطبيعي يقوم على موقف اخلاقي قبل كل شيء .. وتفكك اعقد مشهد للشد السياسي بنبل وهذا ما يدركه الطورة مثلا .. والفزاع .. والعبدللات .. والرحاحلة .. وغيرهم .. وكل اردني .. لربما هذا سبب التطاول في بعض الاحيان .. اننا نشعر بدفء ( الدائرة ) لا حر التعذيب ..
خضعت لما يسمى تحقيق .. كنت اظنه تحقيقا .. وتبين لي انه لا يتجاوز سؤال موظف في دائرة الخدمة المدنية عن بياناتك الشخصية ! غادرت وتفاجأت بأن صديقي لا زال ينتظر بالخارج رغم الاجواء اللاهبة .. كنا في شهر آب حينها .. وذهبنا الى مطعم قريب وتناولنا صحن حمص وفول وفلالفل .. سألني ماذا حدث ؟ فقلت له شدّوا علي نفطر سوا لكن انا رفضت وانفجرنا بالضحك .. لربما تكون الدائرة هي الجهة الحكومية الوحيدة في الاردن التي تخرج منها والابتسامة مرسومة على محياك وتطلق بعد التحقيق نكتة .. نعم فأنت بالاردن .. لن يضارك شيء ويمكن ( تمزيطك ) من اعقد المواقف ..
اليوم وبعد ربع قرن على تلك الحادثة استرجعت الذكريات وتأملت في مشهد اليوم .. بصراحة أصبت بقلق عميق على الأردن وهويته الأمنية الجامعة التي نختزلها في كلمة واحدة ( الدائرة ) .. انا قلق من أن يلي أمر أمننا وجوه لا نعرفها وأن يوسد الأمر لغير أهله وتصبح ( الدائرة ) بعيدة عن الحضور ليقوم بواجبها وزير او تنظيم تسند اليه حكومة .. طبقة الكريما السياسية من الايادي المدنية الناعمة تهاجم ( الدائرة ) وهي طبقة مخيفة مؤثرة واياديها الناعمة وياقاتها البيضاء اخطر من اعتى تنظيم شيوعي في السبعينات .. طبقة الاحزاب وليدة الدلع الديمقراطي التي اخفقت في بناء ذاتها تهاجم ( الدائرة ) وتنسب فشلها المجتمعي للجهاز .. طبقة الوزراء واصحاب الدولة لا تريد تدخلا من الدائرة وتزعم انها تعيق عملها وتمسح اخفاق حتى سياساتها الاقتصادية بالجهاز الذي يقع عليه عبء قلع شوك الحكومات بالايادي السمراء العارية وتحمل الألم .. هكذا يقولون وهكذا يزعمون وهكذا نسمع .. طبقة ما يسمى اصلاحيين تريد تحييد الدائرة بزعم انها تتناقض مع مفاهيمهم للاصلاح .. الشعب الذي انتج ( الدائرة ) هو الوحيد الذي يحاول المحافظة عليها وهو الوحيد الذي سمي شارع الدائرة ودوارها باسمه لانه هو من انتجها لا طبقة البزنس ولا ارستقراطية الدولة ولا نتائج الدلع الديمقراطي .. حقيقة أنا قلق جدا فتفكيك أي منظومة سيادية سياسية قائمة يبدأ بتفكيك منظومتها الامنية .. وعندها صدقوني .. لن ينام أحد