عمر النادي يكتب : أيلول عندما يهبط وسناً على الخيام

{title}
نبأ الأردن -


رتّبت محتويات الخيمة القليلة بعناية ،تحسست ثوبها ودست يداً رسم الدهر عليها قصة رحيل مُرْ ونكبتين، وحسرة ثلاث شهداء ،أخرجت كيساً من قماش أسود كان آخر ما تبقى من قميص أبي ، أخرجت منه كرت الإعاشة (المؤن) وتمتمت ببعض كلمات توحي بان كل شيء على ما يرام ، أمسكت بيدي، وحثت الخطى إلى عالم أخر ، لم أسأل إلى أين؟انا لا اسئل حين اكون مع أمي ، فحيث تكون يكون مبتغاي .
في الحارة ،ثمة نساء أخريات يمسكن بأيادي ابنائهن وكأنهن على موعد مع أمي ، استعد الجمع ومضوا بنفس الإتجاه، كان الحال يذكرني حين خرجن من بيوتهن في فلسطين قابضات على ايادينا الصغيرة ، يعتريهن الخوف والقلق، و كنا لا نعي ما يجرب فنضحك وسط حزنهن ، وها نحن الان نمشي ونتبادل النظرات بفرح لا نعي سببه .
يطرحن الامهات السلام على من يلتقين بهن في الطريق للمدرسة،نعم المدرسة، هذه الكلمة التي نراها أملاً على وجوه التلميذ الاكبر منا سناً ، الكلام كلام الامهات ، أوضح الأمر كله لي ، ستجلني أمي في المدرسة ،عقلي بذل جهداً لمعرفه شكل المدرسة وفشل ، إمرأة واحده شذ كلامها عن الجميع ،حين استفسرت من امي إن كنت بلغت ست سنوات أم لا، وصلنا اخيراً،الطريق كان قصيراً،فالمدرسة لا تبعد كثيراً عن الخيام. والمخيم كله كان كخيمة كبيرة.
اربعة خيام كبيرة ومثاها صغيرة تشبه خيمتنا، هذه هي المدرسة إذن ،انهار رسمها في مخيلتي ، الخيمة الاولى،حلاق يجلس بجوارها على كرسي مشدود بالحبال تظلله مظلة، يحمل ماكينه حلاقة بيده ، يعاونه ابنه بمسك صحن من الألمونيوم مملوء بالكاز ، دفعت أمي (تعريفة) وتمت العملية بنجاح، أشعر الأن بالهواء الرطب على صلعتي ، خيمة أخرى بالجوار فيها أستاذ عرفت فيما اسمه (إدريس مربي الصف) اعجبني الإسم مع اني لم افهم معنى مربي الصف،كان قصير القامة يفوقني طولاً ببضع سنتمترات ، يرتدي نظارات بالكاد ترى عيناه منها، إجراءات التسجيل مرّت على عجل ،لم تكن تتطلب أكثر من كرت الإعاشة (المؤن) ، هنيهات وجاء رجلاً آخر يرتدي معطفاً بني اللون عرفت فيما بعد انه آذن المدرسة ، اقتادني بعناية أمام أمي التي تبعتني بوصاياها ودعائها ، وبدأت الرحله.
كأس حليب، عليك أن تتجرعه كاملاً كاختبار لدخولك خيمة التدريس ، ثمه آذن آخر ينتظرنا بالترتيب، يَدُس قطعة قماش في وعاء فتخرج ناصعة البياض، يلقي ما علق بها من (بودره) يُعتقد أنها ضد القمل على رأسك المحلوق ، وتمضي الرحلة ، روتين يومي على مدار العام الدراسي ،عليك أن تبلع حبة زيت سمك، تدخل خيمة أخرى ، ثمه أشياء تصادفك تحاول أن تفهمها فتفشل فتستسلم ،احدهم رائحته غريبة، مسح على رأسي بيده مشجعاً قبل أن يغرس إبرته في كتفي ،من هول الألم والصدمة بكيت بعد ربع ساعة.
آخر خيمة، فيها إمرأة لا تشبه النساء ، طازجه جداً ،تبتسم بنفس الحجم للجميع ، يجلس بجنبها مدير المدرسة بلا حول ولا قوه ، ينهرني بلا سبب ، يكتبون في دفتر كبير إسمي،ليقتادني الآذن أخيراً إلى خيمة الدرس ،خيمة متخمة بالمشردين حليقي الرؤوس، ومدرس يتوسط الخيمة، يشبهنا تماماً، يشبه جارنا، او اخي الكبير، كان اطول من مربي الصف ادريس. الوقت يمضي سريعاً ،حثثت بعدها الخطى لأروي لأبٍ هدّه التعب والحزن والترحال ، ترويها بشغف وكأنك بطلها المطلق، قصتك قصته التي بدأت للتو ،يبكي ويحضنك،ولا تفهم سر بكائه.
تتوالى الأيام ، وأيلول يأبى إلا أن يكون شاهداً على نكبتنا ، شاهداً على دمع أمي وأنين أبي ، شاهداً على دمٍ سال على حفاف الخيام والعمر المسفوك بعيداً عن الوطن ، أيلول ذاك الحزين، لا يشبه اخوته .


تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير