ناريمان أسعد تكتب: إدمان الكحول: دور الأسرة وبيئة العمل فينشوء السلوك واستمراره

{title}
نبأ الأردن -

لا يمكننا اليوم، في ظل التعقيدات الإنسانية المتزايدة، أن نحصر ظاهرةإدمان الكحول في زاوية ضيقة تختزلها في مجرد خلل بيولوجي أو ضعفأخلاقي لدى الفرد، إذ تؤكد الدراسات أن هذه الظاهرة هي في جوهرهاانعكاس لشبكة معقدة من التفاعلات البيئية التي يستمد منها المرء أنماطسلوكهويشير البحث النظامي إلى أن السلوك الإدماني لا ينشأ في فراغ، بل هو نتاج حتمي لديناميكيات تفاعلية مستمرة بين الذات والمحيط، ممايجعل من الضروري توسيع دائرة الرؤية لتشمل السياقات الأسرية والمهنيةالتي قد تتحول -عن غير قصدإلى محاضن لهذا السلوك.

خلف الأبواب المغلقةرقصة التوازن المعتل

حينما يغرق أحد أفراد الأسرة في دوامة الكحول، فإن النظام الأسريبأكمله لا يقف متفرجاً، بل ينخرط لا شعورياً في عملية إعادة تنظيم سلوكيتهدف إلى استيعاب هذا الإدمان لضمان بقاء الأسرة متماسكة ظاهرياً. وتوضح رؤية برنامج التدريب على العمل النظامي أن هذا التماسك يرتكزعلى مفاهيم ديناميكية دقيقة تفسر لماذا يبدي النظام مقاومة شرسة للتغييرحتى وإن كان الثمن هو المرض، ومن أبرز هذه المفاهيم:

● الاستتباب المرضييمثل النزعة الفطرية للأنظمة للحفاظ علىاستقرارها، حيث يصبح وجود الإدمان هو "العمود الفقريالذي تستند إليه الأسرة لتجنب انهيار أكبر أو مواجهة صراعاتأعمق كانت مخبأة.
● السببية الدائريةتعني أن السلوكيات الإنسانية لا تحدث فيخط مستقيم، بل هي حلقة مفرغة حيث يدفع شرب الزوج الزوجةللوم، ويدفع لومها الزوج لمزيد من الشرب، فتغذي الحلقة نفسهاباستمرار.
● التثليث الوظيفيحين يعجز طرفان عن احتواء توترهما، يستدعي النظام "طرفاً ثالثاً" -وهو الكحول هناليعمل كوسيطصامت يمتص الاحتقان ويوزع فائض القلق بعيداً عن بؤرةالصراع الحقيقي.

من المنزل إلى المكتبتكرار الأنماط تحت مسمياتمختلفة

لا تتوقف هذه الديناميكيات عند حدود المنزل، بل تمتد لتصبغ السياق المهنيالذي قد يتحول إلى بيئة حاضنة ومحفزة للأنماط السلوكية المعيقة نتيجةضغوط نظامية لا ترحموحين تتماهى المؤسسات في قواعدها الضمنية معالأسر المضطربة، يجد الموظف نفسه محاصراً بتوقعات متناقضة تدفعه نحوتبني آليات تكيف قصوى، حيث يتحول الكحول إلى أداة استراتيجية لتحقيقوظائف حيوية للبقاء داخل هذا النظام الضاغط.

فقبل أن نلوم الموظف على تعثره، يستوجب علينا تشريح الوظائف"الترميميةالتي قد يؤديها هذا السلوك في بيئة العمل السامة:

● الإخماد القسرييعمل الكحول كمثبط للجهاز العصبي يتيحللموظف القدرة على فصل ذهنه عن ضجيج العمل المستمروإيقاف سيل الأفكار القهري ليتمكن من استعادة قواه.
● إدمان العمل والتبادل الوظيفيينخرط الفرد في العملبجدية مفرطة كآلية للتكفير عن مشاعر الذنب، مما يراكم توتراً هائلاً يتطلب "تفريغاً" عبر الشرب، لتكتمل الحلقة المفرغة بينالإدمانين.
● التواطؤ المؤسسيقد تذهب بعض القطاعات المهنية إلىتطبيع استهلاك الكحول كجزء من طقوس الاندماج، مما يجعلالامتناع عنه مؤشراً يوصف به الفرد بعدم القدرة على مجاراةإيقاع النظام.

نحو مناعة نظاميةكسر حلقات التمكين

إن الطريق نحو التعافي المستدام يفرض علينا تحولاً جذرياً في الموقفالنظامي والتربوي، لينتقل التركيز من محاولة "إصلاح الفردإلى مفهوم"إزالة السمية النظاميةمن بيئته وحاضنته الاجتماعيةويستنتج العملالنظامي أن استدامة التعافي مشروطة بإعادة هيكلة الديناميكيات المحيطةبالمدمن، وذلك عبر تمكين المحيطين من رسم حدود صحية صارمة، والتوقفعن ممارسة "الرعاية المعيقةالتي تمتص الصدمات نيابة عن المدمن وتمنعهمن مواجهة التبعات الحقيقية لخياراته.

إن إدمان الكحول في عمقه ليس إلا "صرخة نظاميةتجسد وجعاً مزمناً فيبنية العلاقات، مما يضعنا جميعاً أمام أمانة ثقيلة ومسؤولية تربوية لا تقبلالتأجيلإن الأمانة تقتضي منا ألا نقف عند حدود الوصم، بل أن نسعىبصدق لبناء سياقات حياتية تمتلك من كفاءة التواصل وقوة الروابط ما يغنيأفرادها عن اللجوء لعوالم التخدير؛ فالمسؤولية التي سنُسأل عنها هي حمايةهذه الأنفس عبر ترميم الأنظمة التي تحتضنها، ليكون التعافي ثمرة لبناءنمط حياة ومعنى، لا مجرد توقف ميكانيكي عن مادة غريبة.

الدكتورة ناريمان أسعد

خبيرة الأنظمة والديناميكيات والتحول المستدام

مؤلفة ومرجع أكاديمي ومؤسسة بركة للتحول السلوكي المستدام

 

تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير