ناريمان أسعد تكتب: إدمان الكحول: دور الأسرة وبيئة العمل فينشوء السلوك واستمراره
لا يمكننا اليوم، في ظل التعقيدات الإنسانية المتزايدة، أن نحصر ظاهرةإدمان الكحول في زاوية ضيقة تختزلها في مجرد خلل بيولوجي أو ضعفأخلاقي لدى الفرد، إذ تؤكد الدراسات أن هذه الظاهرة هي في جوهرهاانعكاس لشبكة معقدة من التفاعلات البيئية التي يستمد منها المرء أنماطسلوكه. ويشير البحث النظامي إلى أن السلوك الإدماني لا ينشأ في فراغ، بل هو نتاج حتمي لديناميكيات تفاعلية مستمرة بين الذات والمحيط، ممايجعل من الضروري توسيع دائرة الرؤية لتشمل السياقات الأسرية والمهنيةالتي قد تتحول -عن غير قصد- إلى محاضن لهذا السلوك.
خلف الأبواب المغلقة: رقصة التوازن المعتل
حينما يغرق أحد أفراد الأسرة في دوامة الكحول، فإن النظام الأسريبأكمله لا يقف متفرجاً، بل ينخرط لا شعورياً في عملية إعادة تنظيم سلوكيتهدف إلى استيعاب هذا الإدمان لضمان بقاء الأسرة متماسكة ظاهرياً. وتوضح رؤية برنامج التدريب على العمل النظامي أن هذا التماسك يرتكزعلى مفاهيم ديناميكية دقيقة تفسر لماذا يبدي النظام مقاومة شرسة للتغييرحتى وإن كان الثمن هو المرض، ومن أبرز هذه المفاهيم:
من المنزل إلى المكتب: تكرار الأنماط تحت مسمياتمختلفة
لا تتوقف هذه الديناميكيات عند حدود المنزل، بل تمتد لتصبغ السياق المهنيالذي قد يتحول إلى بيئة حاضنة ومحفزة للأنماط السلوكية المعيقة نتيجةضغوط نظامية لا ترحم. وحين تتماهى المؤسسات في قواعدها الضمنية معالأسر المضطربة، يجد الموظف نفسه محاصراً بتوقعات متناقضة تدفعه نحوتبني آليات تكيف قصوى، حيث يتحول الكحول إلى أداة استراتيجية لتحقيقوظائف حيوية للبقاء داخل هذا النظام الضاغط.
فقبل أن نلوم الموظف على تعثره، يستوجب علينا تشريح الوظائف"الترميمية" التي قد يؤديها هذا السلوك في بيئة العمل السامة:
نحو مناعة نظامية: كسر حلقات التمكين
إن الطريق نحو التعافي المستدام يفرض علينا تحولاً جذرياً في الموقفالنظامي والتربوي، لينتقل التركيز من محاولة "إصلاح الفرد" إلى مفهوم"إزالة السمية النظامية" من بيئته وحاضنته الاجتماعية. ويستنتج العملالنظامي أن استدامة التعافي مشروطة بإعادة هيكلة الديناميكيات المحيطةبالمدمن، وذلك عبر تمكين المحيطين من رسم حدود صحية صارمة، والتوقفعن ممارسة "الرعاية المعيقة" التي تمتص الصدمات نيابة عن المدمن وتمنعهمن مواجهة التبعات الحقيقية لخياراته.
إن إدمان الكحول في عمقه ليس إلا "صرخة نظامية" تجسد وجعاً مزمناً فيبنية العلاقات، مما يضعنا جميعاً أمام أمانة ثقيلة ومسؤولية تربوية لا تقبلالتأجيل. إن الأمانة تقتضي منا ألا نقف عند حدود الوصم، بل أن نسعىبصدق لبناء سياقات حياتية تمتلك من كفاءة التواصل وقوة الروابط ما يغنيأفرادها عن اللجوء لعوالم التخدير؛ فالمسؤولية التي سنُسأل عنها هي حمايةهذه الأنفس عبر ترميم الأنظمة التي تحتضنها، ليكون التعافي ثمرة لبناءنمط حياة ومعنى، لا مجرد توقف ميكانيكي عن مادة غريبة.
الدكتورة ناريمان أسعد
خبيرة الأنظمة والديناميكيات والتحول المستدام
مؤلفة ومرجع أكاديمي ومؤسسة بركة للتحول السلوكي المستدام
























