م.صلاح طه عبيدات يكتب: اعتراف صاخب
نبأ الأردن -
أدوّن كمن ينقش على جدار داخليّ آيلٍ للانهيار. لستُ هاربًا من الطرق، بل من المرايا؛ فكل مرآةٍ تطالبني بوجهٍ واحد، وأنا صرتُ كثرةً لا تُحتمل. أطوي المسافة في صدري لا في الأرض، وأترك عند كل عتبة ظلًّا يشبهني ثم أمضي، كأنني أتعلم فنّ الانقسام لا النجاة. الألم لا يلاحقني لأنني أسبقه بخفّة المعنى حين يقرّر أن ينسحب.
أخلع اسمي كما تُخلع الدروع الثقيلة بعد معركةٍ بلا خصم. الأسماء هنا ليست نداءات، بل أجراس إنذار، وحين يُناديني الواقع باسمي أعرف أنه يريدني شاهدًا لا إنسانًا. أمضي بلا جهة، لأن الجهات خرائط رسمها المنتصرون، أما أنا فأبحث عن هوامش لم تطأها الأقدام بعد. قلبي، ذلك القاضي القديم، يطالبني بالحقيقة، وأنا أؤجّل الجلسة؛ فبعض الحقائق لا تُقال، بل تُترك لتنضج في العتمة كي لا تموت صغيرة.
الشجاعة؟ كلمةٌ من حجر. يضعونها على صدور المتعبين ويطلبون منهم الوقوف. لا يعلمون أن الوقوف أحيانًا سقوطٌ مؤجَّل. أنا متعب حدّ التحوّل إلى فكرة، وحدّ الرغبة في أن أكون أثرًا لا حضورًا، لأن الحضور في هذا الزمن امتحان قاسٍ لمن ما زال يحتفظ برهافة الإحساس.
أقول لخطاي: تمهّلي. فالوقت ليس نهرًا، بل طاحونة، وكلما أسرعنا طحننا أنفسنا بأيدينا. لم نهرب من الأيام؛ الأيام هي التي عبرتنا ونسيت أسماءنا على الضفة الأخرى. ولم نتعب من الطريق، بل من حمل قلوبٍ متشققة ظنّت أن الصبر يعيد تشكيلها حجرًا.
أتوقّف عند مفترقٍ لا تشير إليه اللافتات. لست متأخرًا عن الحياة، أنا فقط أحمل على ظهري مواسم لم تجد ربيعها. جراحٌ ما زالت تتعلّم شكلها، وخيباتٌ لبست قناع الثبات كي لا تُفضَح. أطلب لروحي هدنة، لا زمنًا، هدنة تشبه الليل حين يعيد للأشياء أحجامها الحقيقية.
في هذه الهدنة، أرمّم نفسي بالصمت، لا لأن الصمت دواء، بل لأنه اللغة الوحيدة التي لا تكذب. أترك الركض يمرّ من حولي كريحٍ عمياء، وأحاول أن أفهم: السكينة لم تضِع، لقد تحوّلت إلى طائرٍ بريّ لا يقترب إلا ممن يجلس طويلًا دون نوايا. وحين أفهم ذلك، أدرك أن النجاة لم تكن في الهروب، بل في التوقّف كمن يضع أذنه على صدر العالم، لا ليسمعه، بل ليتأكد أنه ما زال حيًّا داخله.

























