م صلاح طه عبيدات يكتب:«حين يقف المريض في طابور الثورة الصناعية الرابعة»
نبأ الأردن -
حين أُطلق نظام حكيم وشبكته الإلكترونية في وزارة الصحة الأردنية، قُدِّم بوصفه قفزة نوعية في إدارة الخدمات الصحية، وأداة ذكية لتسريع الإجراءات، وضبط السجلات، وتقليل الهدر الزمني والبشري. كان الوعد كبيراً، والرهان أكبر، خاصة في قطاع يُفترض أن تكون فيه الدقيقة مسألة حياة، لا مجرد تفصيل إداري.
غير أن التجربة اليومية للمواطن في المستشفيات والمراكز الصحية تروي قصة مختلفة، أقرب إلى مفارقة مؤلمة منها إلى إنجاز تقني. فبدلاً من أن تختصر التكنولوجيا المسافة بين المريض والخدمة، باتت تشكّل حاجزاً جديداً، يتعثر عنده الزمن، وتتكدس أمامه الطوابير، ويضيع فيه المراجع بين نوافذ إلكترونية معطلة، وإجراءات متسلسلة لا تنتهي إلا بتوقف النظام ذاته عن العمل.
المشكلة لا تكمن في مبدأ التحول الرقمي بحد ذاته، بل في طريقة تبنيه وتنفيذه وإدارته. فالنظام الذي يُفترض أن يكون مرناً، مستقراً، وقادراً على العمل تحت الضغط، يتحول في أوقات الذروة إلى عبء إضافي على الكادر الطبي والإداري، وإلى مصدر إحباط للمريض الذي جاء طلباً للعلاج لا لاختبار صبره أمام شاشة جامدة. هنا تتحول الرقمنة من وسيلة تمكين إلى أداة تعطيل، ومن رمز للتقدم إلى عنوان لأزمة ثقة.
المفارقة الأكثر إيلاماً أننا نعيش زمن الثورة الصناعية الرابعة، حيث الذكاء الاصطناعي يتنبأ بالأمراض، والأنظمة الذكية تدير مستشفيات كاملة بكفاءة عالية، فيما ما زال المواطن يقف في طابور كئيب ينتظر "عودة النظام”، وكأننا أمام بنية تقنية تنتمي إلى زمن آخر، لا إلى عصر البيانات الضخمة والحوسبة السحابية. الفجوة هنا ليست تقنية فقط، بل فكرية وإدارية، وتعكس غياب التحديث الحقيقي لمفهوم الخدمة العامة.
إن أي نظام إلكتروني لا يُقاس بجمال واجهته أو حداثة اسمه، بل بقدرته على خدمة الإنسان في اللحظة الحرجة، وعلى التكيف مع الواقع العملي، وعلى تقليل الاحتكاك لا زيادته. وحين يصبح النظام هو الغاية، والمريض مجرد رقم ينتظر اكتمال دورة إجرائية طويلة، فإن الخلل يكون قد تجاوز البرمجيات ليصل إلى فلسفة الإدارة ذاتها.
وزارة الصحة اليوم أمام مسؤولية وطنية لا تحتمل التجميل الإعلامي ولا التبرير التقني. المطلوب مراجعة شاملة للاستراتيجية الرقمية، تنطلق من أفضل الممارسات العالمية، وتضع المريض في قلب العملية، لا على هامشها. تطوير البنية التحتية، ضمان استمرارية الأنظمة، تدريب الكوادر، وفتح المجال لحلول أكثر ذكاءً ومرونة، لم تعد خيارات رفاهية، بل استحقاقات ضرورية.
فالخدمة الصحية ليست مجرد إجراء يُنجز، بل رسالة دولة، وواجهة حضارية تعكس احترام الإنسان وكرامته. وحين تتعثر هذه الرسالة عند بوابة نظام إلكتروني متهالك، فإن السؤال الحقيقي لا يكون عن سبب توقف النظام، بل عن مدى جاهزيتنا للانتقال فعلاً إلى المستقبل الذي نُعلن أننا نعيش فيه.

























