م.صلاح طه عبيدات يكتب:بين الأسطورة والحقيقة

{title}
نبأ الأردن -
إذا كانت الأسطورة قديمة في أدواتها، فإن الإعلام هو أسطورتها الحديثة. الفارق الوحيد أن الغولة اليوم لا تخرج من الغابة، بل من الشاشة، وأن الذئب لم يعد يعوي في العتمة، بل يتحدث بلغةٍ ناعمة، محسوبة، ومدروسة بعناية.
الإعلام، في جوهره، ليس مجرد ناقل للواقع، بل مُعيد تشكيل له. فهو يقرر ما يُرى وما يُحجَب، ما يُقال وما يُترك في الظل، وما يُضخَّم حتى يصبح حقيقةً وحيدة، وما يُهمَّش حتى يبدو كأنه لم يكن. هنا تتقاطع الأسطورة مع السياسة: فكما كانت الحكاية القديمة تُدار لإنتاج الخوف، تُدار الرسالة الإعلامية الحديثة لإنتاج الإدراك المطلوب.
ما يُفصَح عنه ليس بالضرورة ما هو الأهم، بل ما يخدم سردية بعينها. وما لا يُفصَح عنه لا يختفي لأنه غير موجود، بل لأنه غير مرغوب. الصمت، في الإعلام، ليس فراغًا؛ إنه قرار. والتجاهل ليس غفلة؛ إنه سياسة. وهكذا يُصنع «المجهول غير المرئي» من جديد، لا بوصفه غيبًا، بل بوصفه معلومة محجوبة، ملفًا مغلقًا، أو سؤالًا مؤجلًا إلى أجل غير مسمى.
في هذا السياق، يتحول الإعلام إلى راوي أسطورة معاصرة: يختار أبطاله، ويصنع أعداءه، ويرسم حدود الخوف والاطمئنان. يُلوّح بالذئب حين يريد ضبط المزاج العام، ويستحضر الغولة حين يحتاج إلى تبرير القلق أو القبول بإجراءات قاسية. لا يُطلب من الجمهور أن يفهم، بل أن يصدّق. لا أن يُحلّل، بل أن يتفاعل ضمن الإطار المرسوم سلفًا.
الأخطر أن هذا النمط الإعلامي لا يعمل عبر الكذب الصريح، بل عبر الحقيقة المجتزأة. جزء يُعرض ليحجب الكل، وصورة تُكرَّر حتى تطغى على السياق، وخبر يُضخَّم ليغطي على أسئلة أكبر لا يُراد لها أن تُطرح. وهنا يصبح الإعلام مدرسة جديدة لتعليم الخوف، لا من الغابة، بل من السؤال نفسه.
وحين يعتاد المجتمع هذا النمط، يُعاد إنتاج العقل الأسطوري ولكن بثوب عصري. عقل يرى ما يُسمح له برؤيته، ويخشى ما يُشار إليه، ويتجنب ما لا يُذكر. عقل يفسّر الواقع ضمن سرديات جاهزة، ويبحث عن الطمأنينة في الخطاب السائد، لا في التحقق والتمحيص. وكما في الحكاية القديمة، يُعفى الفرد من عناء التفكير، لأن الراوي تكفّل بكل شيء.
غير أن الإعلام، كما الأسطورة، ليس شرًا بذاته. خطورته تكمن في فقدان التوازن بين الإفصاح والكتمان. فالإعلام الذي يحترم العقل لا يخاف من الضوء، ولا يُشيطن السؤال، ولا يصنع من الصمت أداة حكم. بل يضع الوقائع كاملة أمام الناس، ويترك لهم مسؤولية الفهم، حتى لو كان الفهم مؤلمًا.
في النهاية، المعركة ليست بين إعلام جيد وإعلام سيئ، بل بين وعيٍ يكتفي بالحكاية، ووعيٍ يطالب بالحقيقة. وبين الغولة القديمة والشاشة الحديثة، يبقى السؤال الفلسفي ذاته: هل نريد جمهورًا مطمئنًا بالخوف… أم مجتمعًا ناضجًا لا يخاف من أن يرى ما لا يُراد له أن يُرى؟
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير