د. ماجد الخواجا يكتب: المتسلقون.. عبيد الانتهازية وانتهازية العبيد
نبأ الأردن -
محفوظ عجب شخصية انتهازية متسلقة لصحفي بلا أخلاق، وصل لقمة المجد والشهرة بعد موت ضميره وداس في طريقه كل عائق يواجهه، بما فيهم أقرب الناس إليه. شخصية سيكوباثية تحقق طموحاتها فوق جثث وسمعة وحياة زملائه ومعارفه.
في رواية الكاتب الصحفي موسي صبري والتي خرجت في شكل فيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني بعنوان "دموع صاحبة الجلالة" سنة 1992 و 1993، تدور الفكرة حول صعود صحفي انتهازي في فترة الأربعينيات من القرن الماضي مستغلاً علاقاته مع السلطة والنساء للوصول للقمة، وتتكشف الفكرة عن كمية الأمراض التي تتلوث الصحافة بها من فساد وانتهازية وتلاعب بالكلمات والمواقف من أجل المصلحة الشخصية وإضعاف المهنية والموضوعية والقيم الأخلاقية الإعلاميةن كما تبرز طبيعة الصراعات والمنافسات في بلاط صاحبة الجلالة واللهاث خلف كسب الدعم والتأييد عبر الإحتماء بالوطنية وإدعاء المصداقية والأمانة.
تتشكل شخصية الصحفي " محفوظ عجب" بكونها شخصية متقلبة يتظاهر صاحبها بالوطنية، لكنه لا يخدم غير مصلحته الذاتية، يصعد أكتاف زملائه عبر الوشايات والعمل كمخبر غير صادق، تقرّباً للسلطة وأجهزتها، وتسلقاً للمواقع والاستحواذ للمناصب ورضا المسؤولين عنه.
هكذا تم تقديم مشهد الصحافة السلطوية الانتهازية التي تحولت فيها من مهنة مغلفة بالقيم الأخلاقية، لتصبح حرفة وتجارة ووسيلة لبلوغ المكاسب الشخصية.
إنها فكرة أسلوب الوصول للقمة عبر موت المبادئ، وغياب الضمير المهني عن العمل الصحفي، وتجاهل عظمة وهيبة مهنة الصحافة والتحوّل لأبواق عند أبواب وعتبات أصحاب النفوذ.
كيف تتحول الصحافة لتجارة رخيصة تعتمد فنون الترويج والتسويق عبر التلاعب بعقل ووجدان المتلقّي، وتغييب النزاهة والإعلاء من الحقيقة والحرفية والموضوعية. فالمعيار السائد هو حجم الفوائد المادية والمعنوية وتحقيق الأمجاد الزائفةن وبناء هياكل وقصور لصاحبة الجلالة، تبدو ذات وقار وعلّو شأن من حيث الشكل الخارجي، فيما يكون الخواء والوهم والعبث بالفراغ هو ما يشكّل المضمون لتلك القلاع المسماة بالمؤسسات الإعلامية.
فيما ما زال السؤال عالقاً حول شخصية الصحفي الحقيقي الذي كتبت عنه الرواية، حيث أشارت الأصابع لعديد كبيرٍ من الصحفيين ممن تنطبق عليهم حالة " محفوظ عجب"، وهنا أستذكر تلك الحادثة الواقعة عندما قام أحدهم بإرسال برقيات لكبار رجال الأعمال ملخصها " أهرب فقد اكتشف أمرنا"، حيث غادر البلاد مئات من رجال الأعمال هاربين، معتقداً كل واحدٍ منهم أنه المعنّي بالبرقية. إن محفوظ عجب الذي استهدفته الرواية من واقع أربعينيات القرن الماضي، ما زال يتكاثر ويتواجد في مختلف المجالات الصحفية ومؤسساتها. شخص هامشّي يخرج من قاع المجتمع، يلفّه البؤس والفقر والعوز، لكنه يمتلك اللسان ونواصي الحرف والكلام، يمتلك كل أسباب التزلّف والهوان وقابلية الإمتطاء والمهارة في حمل المباخر والمناشف. فيبدأ مرحلة الصعود من القاع ليصل القمة. فيصبح أحد أركان السلطة وربما أحد رموز الدولة الذين يشار لهم بالبنان. وقد يواصل دوراً مرسوماً بدراية وحنكة بحيث يظل ضمن مشهد الوطني المعارض صاحب الصوت والقلم الجريء.
إن تعبير "المصلحة العامة ومقتضياتها" هي الجملة الأكثر استخداماً في قواميس من يشبهون محفوظ عجب، وهي الأداة التي يتلاعبون بها في وجه رؤسائهم المهزوزين، ويشنقون بها زملائهم ومنافسيهم والمحتملين ممن يمكن أن يكشفوا انتهازيتهم وكل من يقف بطريقهم.
منذ عقود يجري البحث عن الشخصية الحقيقية لمحفوظ عجب، لكن يبدو أنه لا حاجة لمواصلة تلك العمليات البحثية، يكفي التفاتة صغيرة للوسط الإعلامي كي نشاهد الكثيرين الكثيرين من شاكلة " محفوظ عجب" .
محفوظ عجب الشخصية الانتهازية تتواجد كالفيروسات في كل زمانٍ ومكان. نجدها في الإدارة، بوجود مدير ضعيف شكاك يصغي لأمثال هؤلاء ويعمل لهم كحاضنة وبيئة خصبة ليتكاثروا فيها، فيصعدوا بسرعة لمراتب لا يستحقونها وليسوا أكفاء لها.
في نهاية رواية محفوظ عجب، يقذف الانتهازي برئيسه للسجن ويجلس في موقعه بدلاً منه، متناسياً أنه قد أحسن إليه منذ بداية صعوده حين أحضر له ثياباً جديدة بدل ثيابه الرثّة. إنها الرسالة لكل الإدارات في كل المنظمات،أن مصيرها كمصير مجير أم عامر وحاضن محفوظ عجب.
تنتهي أحداث فيلم دموع صاحبة الجلالة بلقطة يظهر فيها محفوظ عجب الذي وصل لأعظم المراتب، بشخصٍ بائسٍ محطّم يستوقفه قبل أن يركب سيارته ويشرع في مديح لا ينتهي لمحفوظ وأن جلّ أمنياته أن يصبح من رجالاته. فيطلق محفوظ عجب ضحكة مجلجلة يستذكرفيها ذات البدايات له قبل أربعين سنة.

























