د. حسام باسم حداد يكتب: الفيزياء المالية

{title}
نبأ الأردن -
شهدت العقود الأخيرة تزايداً ملحوظاً في الاهتمام بالتقاطع بين العلوم الطبيعية والعلوم الاقتصادية، وظهر من هذا التداخل مجال جديد يعرف باسم الفيزياء المالية .(Econophysics) إذ يقوم هذا المجال على استخدام مفاهيم ونماذج وأساليب الفيزياء الرياضية، خصوصاً تلك المستخدمة في دراسة الأنظمة المعقدة لتفسير سلوك الأسواق المالية وفهم الأنماط التي تحكم حركة الأسعار والتقلبات والتفاعلات بين المتعاملين. ورغم أن الفيزياء المالية لا تهدف إلى استبدال الاقتصاد التقليدي، فإنها تقدم أدوات تحليلية إضافية تساعد على استكشاف الظواهر التي يصعب تفسيرها بالطرق الاقتصادية الكلاسيكية، وهو ما جعلها أحد أكثر المجالات تطوراً في تحليل الأسواق خلال العقود الأخيرة.

وتعود البدايات الفكرية لهذا الحقل إلى عالم الرياضيات الفرنسي Louis Bachelier، الذي قدّم في عام 1900 أطروحته الشهيرة حول نظرية المضاربة، حيث استخدم نموذج الحركة العشوائية لوصف أسعار الأصول المالية. وقد فتح هذا العمل الطريق أمام التفكير في الأسواق بوصفها أنظمة ديناميكية تخضع لعمليات احتمالية مشابهة لتلك التي تتم دراستها في الفيزياء. مع أن إسهامات لويس لم تنل التقدير الكافي في عصره، إلا أنها أصبحت لاحقاً حجر الأساس لنماذج رياضية معتمدة في التحليل المالي الحديث، وللمقاربات التي تبنتها الفيزياء المالية في فهم السلوك المالي من منظور علمي.

ومع تطور البيانات الضخمة وازدياد القدرة على تحليل السلاسل الزمنية، بدأ عدد كبير من الفيزيائيين في بتطبيق نماذجهم الرياضية على النظام المالي. فالسوق، من منظور الفيزياء، ليس مجرد منصة يبيع فيها بعض الأشخاص ويشتري آخرون بل هو نظام معقد يتكون من عدد هائل من المستثمرين والمؤسسات الذين تتقاطع قراراتهم وتتفاعل بطريقة غير خطية. هذه التفاعلات تؤدي إلى ظهور خصائص جماعية لا تظهر عند النظر إلى الأفراد وحدهم، تماماً كما تظهر خصائص جديدة في المواد عندما تتفاعل الجزيئات. وتشير الدراسات داخل هذا المجال إلى أن تحركات الأسعار لا تتبع التوزيع الطبيعي كما تفترض الكثير من النظريات الاقتصادية التقليدية، بل تتسم بذيول ثقيلة (Heavy Tails) تلك المستخدمة في الاحصاء والمالية لوصف توزيع الاحتمالات، التي لديها احتمالات أعلى بكثير لحدوث القيم النادرة أو المتطرفة مقارنة بالتوزيع الطبيعي، اذ تكشف احتمالات الأحداث النادرة مثل الانهيارات المفاجئة أو فقدان السيولة لحدوث تقلبات حادة وأزمات مفاجئة. ونتيجة لذلك، تسعى الفيزياء المالية إلى بناء نماذج أكثر واقعية قادرة على فهم هذه الانحرافات والتنبؤ بحالات عدم الاستقرار مع اعتبار الأسواق كأنظمة غير خطية تخضع لمؤثرات جماعية معقدة.

وتبرز أهمية الفيزياء المالية بشكل واضح عند ربطها بالقطاع المصرفي، إذ تُعدّ البنوك من أكثر المؤسسات حساسية لتقلبات أسعار الفائدة والعملات والأصول المالية. فالقطاع المصرفي يعمل داخل شبكة مالية معقدة تعتمد على الإقراض البيني وإدارة السيولة والتعامل المباشر مع الأسواق العالمية. وتساعد النماذج المستندة إلى الفيزياء في تحليل كيفية انتقال الصدمات عبر هذه الشبكات، حيث تشبه العلاقات بين البنوك العلاقات بين الجسيمات في نظام فيزيائي معقد. برأيي، أن الفيزياء المالية ليست مجرد مجال أكاديمي قائم على محاكاة الظواهر الطبيعية، بل أصبحت أداة استراتيجية لاستقرار القطاع المصرفي وتعزيز قدرة البنوك على فهم تعقيد الأسواق العالمية وتقدير المخاطر وبناء أنظمة مالية أكثر مرونة وقدرة على مواجهة الصدمات.

Dr.hhaddad@outlook.com
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير