سهم محمد العبادي يكتب: محاكمة وطن بذريعة مباراة
نبأ الأردن -
هذا النص الذي كُتب احتفالًا بخسارة الأردن من قبل "مأزوم" بحق الأردن، لا يمكن وضعه في خانة الرأي الرياضي ولا حتى في خانة الانفعال العاطفي، بل يجب قراءته كنص كراهية مؤدلج، يستعمل كرة القدم قناعًا، ويُسقط عليها تاريخًا متراكمًا من العقد، ويحوّل مباراة إلى محاكمة وطن، ويستبدل التحليل بالتشفي، واللغة بالسباب، والمنطق بالتعميم. هنا لا نتحدث عن منتخب خسر نهائيًا، بل عن كاتب كان ينتظر هذه اللحظة ليقول ما في صدره من ضغينة دفينة، فخرج النص فاضحًا لصاحبه أكثر مما هو جارح لمن كُتب عنه.
أول ما يسقط في هذا المقال هو ادعاء الأخلاق، لأن الشماتة ليست موقفًا، ولا فضيلة، ولا حتى رد فعل طبيعي، بل علامة ضعف فكري وعاطفي. الشعوب الواثقة لا تحتاج أن ترى غيرها يخسر كي تشعر أنها منتصرة، والدول التي تعرف قيمتها لا تكتب تاريخها على دموع الآخرين. حين يتحول الفرح إلى شماتة، فالمشكلة ليست في المباراة، بل في النفس التي تكتب، وفي البوصلة التي اختلت، وفي الوعي الذي اختصر الرياضة إلى ثأر، والهوية إلى حقد.
ثانيًا، تفكيك خطاب الفقر الذي استُخدم كسلاح. السخرية من الأردن بوصفه بلدًا فقيرًا بلا نفط ولا غاز ولا موارد ليست نقدًا سياسيًا ولا توصيفًا اقتصاديًا، بل خطاب دونيّ يعكس عقلية ترى قيمة الدول في ما تحت الأرض لا في من فوقها. الأردن لم يدّعِ يومًا أنه بلد غني بالثروات، لكنه ادّعى – ويملك الدليل – أنه بلد غني بالثبات، وبالقدرة على الوقوف في أكثر مناطق العالم اضطرابًا دون أن ينهار، وبالقدرة على استقبال البشر دون أن يبيع كرامته، وبالقدرة على الصمود دون أن يحوّل حاجته إلى شتيمة للآخرين. من يعيّر بلدًا بفقره إنما يكشف عن فهم بدائي لمعنى الدولة، فالكرامة ونحن من صنعناها أغنى من الثروات المادية.
ثالثًا، المغالطة الأخطر في المقال هي تعميم أخطاء – حقيقية أو مزعومة – على شعب كامل. الهتافات المسيئة، إن وُجدت، تُدان بلا نقاش، ولا أحد في الأردن يدافع عنها، لكن تحويلها إلى وصف جوهري لشعب بأكمله هو منطق عنصري لا يختلف عن منطق الإقصاء الذي يدّعي الكاتب أنه يرفضه. لا دولة في العالم تَسلم مدرجاتها من الانفلات، ولا شعب يُختزل في صرخة، ولا وطن يُدان بهتاف. استخدام هذه الذريعة لتبرير كراهية متراكمة هو هروب من مواجهة السبب الحقيقي لهذا الغضب.
رابعًا، محاولة نزع صفة "النشامى” عن المنتخب الأردني ليست نقدًا لغويًا، بل جهل ثقافي. النشمي في الوعي الأردني ليس الفارس الذي لا يُهزم، بل الرجل الذي يعرف كيف يربح دون غرور، وكيف يخسر دون انحطاط. النشمي لا يشتم خصمه، ولا يهين علمه، ولا يفرح بسقوطه. والمفارقة أن المنتخب الذي خسر النهائي خرج مرفوع الرأس، بينما النص الذي كُتب فرحًا بخسارته خرج مهزومًا أخلاقيًا.
خامسًا، هذا المقال لا يتحدث عن الأردن فقط، بل يسيء للعراق نفسه، لأنه يقدّم العراقي بوصفه كائنًا شماتًا، حاقدًا، يعيش على تصفية الحساب، بينما العراق أكبر من ذلك، وأعمق، وأغنى إنسانيًا من أن يُختزل في افتتاحية غاضبة. العراق الذي نعرفه بلد الشعر والوجع والحضارة، بلد لا يحتاج أن يحتفل بخسارة غيره كي يشعر بقيمته. والخلط بين الشعب العراقي وخطاب كاتب واحد هو ظلم للعراقيين قبل أن يكون إساءة للأردنيين.
الأردن خسر مباراة كرة قدم، وهذا يحدث للكبار في عالم المستديرة، لكنه لم يخسر لغته، ولا أخلاقه، ولا توازنه، ولا حاجته إلى كراهية الآخرين كي يثبت وجوده. أما من كتب هذا النص فقد ربح لحظة شماتة، وخسر احترام الفكرة، وخسر منطق الخطاب، وخسر القدرة على التفريق بين المنافسة والعداء. والتاريخ، كما نعرف، لا يتذكر من خسر مباراة، بل يتذكر دائمًا من خسر نفسه وهو يكتب.
ولدي الكثير مما يمكن قوله، والكثير من الحجج التي كان يمكن أن تُقال، خصوصًا في الشق الاقتصادي الذي جرى تزويره بجهل، فكل ما جاء من العراق إلى الأردن لم يكن يومًا عطايا ولا مِنحًا ولا صدقات، بل كان مدفوع الثمن كاملًا غير منقوص، وفق اتفاقات واضحة ومعلنة، ولم يكن في يوم من الأيام مكرمة ولا منّة، والأردن لا يعيش على المِنن أصلًا.
ومن باب الأمانة التي غابت عن كاتب المقال، حين وقف العالم ضد العراق، وقف الأردن معه، ودفع ثمن موقفه حصارًا اقتصاديًا خانقًا، وحوصِر ميناء العقبة بالسفن، وضاقت سبل الرزق على الأردنيين، ولم نخرج يومها لنمنّ أو نعاير أو نرفع الصوت، لأن من يقف مع غيره في الشدّة لا يكتب فواتير أخلاق.
هذه حقائق يعرفها من عاش تلك المرحلة، ويجهلها من يكتب من موقع الغضب لا من موقع المعرفة. الأردن لم يكن يومًا عالة على أحد، ولم يبع موقفه، ولم يساوم على كرامته، وهذه هي القصة كلها، بعيدًا عن كرة قدم، وبعيدًا عن شماتة عابرة، وبعيدًا عن مقالات لا ترى من التاريخ إلا ما يخدم حقدها. عاش الأردن العظيم.

























