أمجد الفاهوم يكتب :المدينة الجديدة… بين ضرورة التنمية وواقعية التحديات
نبأ الأردن -
الاستاذ الدكتور أمجد الفاهوم
تبدو فكرة إقامة مدينة جديدة مشروعًا تنمويًا يتجاوز البعد العمراني إلى رؤية وطنية تعيد توزيع الثروة السكانية والاقتصادية على نحو أكثر كفاءة. فالدوافع لا تنبع من الرغبة في بناء عمران حديث فحسب، بل من الحاجة إلى تصحيح التشوهات التي خلقتها عقود من التمركز في مدن كبيرة مثقلة بالخدمات، حيث ترتفع الكلف وتصبح البنية التحتية عاجزة عن استيعاب النمو الطبيعي للسكان. إن المدينة الجديدة تمثل فرصة لتخفيف الضغط عن المدن المكتظة، وتحسين نوعية الحياة، وبناء منظومة خدمات أكثر حداثة ومرونة، بما يتيح اقتصادًا محليًا أكثر ديناميكية واستدامة.
تبرز أهمية إنشاء مدينة جديدة عندما ندرك أن البنية الحالية في العديد من المدن أقرب إلى حالة تشبّع وظيفي، حيث تتباطأ حركة الاستثمار بفعل الازدحام وارتفاع تكاليف السكن والبنية التحتية، وتواجه الخدمات الأساسية محدودية التوسع دون كلفة مالية كبيرة. وهنا تتحول المدينة الجديدة إلى مختبر حضري مفتوح، يسمح بتصميم شبكات طرق حديثة، ومناطق صناعية وخدمية متكاملة، وإدارة ذكية للطاقة والمياه والنقل، بما يقود إلى اقتصاد حضري أقل استهلاكًا وأكثر إنتاجية. كما أن الموقع الجديد قادر على احتضان منظومة صحية وتعليمية مرنة، تستهدف الفئات الشابة والطبقة المنتجة، وتُعيد توزيع الفرص على نحو لا يخلق أحزمة فقر جديدة داخل المدن القديمة.
تشكل عناصر القوة في المدينة الجديدة نقطة فارقة إذا أُحسن التخطيط لها. فالبداية من الصفر تمنح فرصة لتجنّب الأخطاء المتراكمة في المدن القائمة، مثل التداخل العشوائي بين السكني والصناعي، أو غياب النقل العام الفعال، أو الانفصال بين مراكز العمل والسكن. كما أن تصميم مدينة تعتمد على البنية الرقمية الذكية يفتح المجال أمام أنماط جديدة من العمل والتعليم والخدمات، ويقلل من كلفة التشغيل والصيانة على المدى الطويل. وتستطيع المدينة أن تتحول إلى نموذج اقتصادي يستقطب الاستثمارات، إذا ما صُممت مناطق اقتصادية حرة أو تكنولوجية قادرة على توفير حوافز حقيقية للقطاع الخاص، وبنية تشريعية مرنة تحفز الابتكار وريادة الأعمال.
ومع ذلك، فإن المشروع لا يخلو من تحديات موضوعية. أول هذه التحديات يتعلق بالتمويل طويل الأمد، لأن بناء مدينة متكاملة ليس مجرد إنشاء طرق ومساكن، بل تأسيس منظومة حياة كاملة تشمل المدارس والمستشفيات والنقل العام والطاقة والمياه، وهي بنود تتطلب شراكات حقيقية بين القطاعين العام والخاص. أما التحدي الثاني فيرتبط بالزمن؛ فالمشاريع الكبرى عندما تتجاوز الجدول الزمني تفقد جزءًا من جدواها الاقتصادية، وتتعرض لتآكل الكلفة، وتصبح أكثر ارتباطًا بالتقلبات المالية. ويأتي التحدي الثالث من جانب الطلب المجتمعي، فنجاح المدينة يتوقف على قدرتها على اجتذاب السكان والأنشطة التجارية، وليس مجرد اكتمال بناياتها. فالمدينة لا تعيش بالبنية الخرسانية وحدها، بل بالوظائف والفرص ومراكز الحياة التي تمنحها الاكتفاء الذاتي.
إن التخطيط الواقعي للمدينة الجديدة يحتاج إلى رؤية تنفيذية تبدأ من مفهوم الجدوى الشمولية لا من هندسة الشوارع فقط. فالتجارب الدولية تثبت أن المدن الحديثة التي نجحت كانت الأقرب إلى فكرة "النمو كمرحلة” لا "البناء دفعة واحدة”. ويمكن إطلاق المدينة على شكل نواة متكاملة صغيرة تضم السكن والمرافق والمدارس والمركز الصحي والنقل العام، ثم تتوسع تدريجيًا بحجم الطلب وبوتيرة مدروسة، وبذلك تبقى الكلفة قابلة للسيطرة، ويستمر المشروع ضمن إطاره الزمني دون الحاجة إلى دفعات مالية مفاجئة أو توسعات غير محسوبة. ويساعد هذا النهج على خلق دورة اقتصادية داخلية منذ المراحل الأولى، مما يجعل المدينة قادرة على تمويل جزء من توسعها من خلال بيع الأراضي والخدمات دون إرهاق الموازنة العامة.
وعلى مستوى الجودة، من الضروري أن تعتمد الحكومة معايير تصميم عالمية تسمح بإدارة الطاقة والمياه والنقل العام بأسلوب اقتصادي وذكي، وأن تُشرك القطاع الخاص في التطوير والإدارة، وأن تضمن نموذجًا عقاريًا لا ينتهي إلى ارتفاع أسعار مفاجئ يحول دون استقطاب الفئات المنتجة. ويمكن أن تتحول المدينة الجديدة إلى منصة للابتكار العمراني، إذا ما صُممت أحياؤها وفق مفهوم الاستدامة، مع مساحات خضراء واسعة ونظم نقل عام متقدمة ومبانٍ صديقة للطاقة، بما يجعل الإقامة داخلها ليست خيارًا سكنيًا فقط، بل نمط حياة أكثر صحة وكفاءة.
بهذه الرؤية، تصبح المدينة الجديدة مشروعًا اقتصاديًا واجتماعيًا قادرًا على تقليل الضغط عن المدن القديمة، وخلق فرص عمل وتحفيز الاستثمار، وتوفير سكن ميسر وخدمات أكثر عدالة. فالمدن ليست مبانٍ، بل طريقة تفكير، وإذا ما أُقيمت المدينة الجديدة بمنهجٍ مرحلي، وبتمويل متدرج، وبشراكات ذكية، فإنها يمكن أن تتحول إلى أحد أهم مشاريع التحول العمراني في البلاد، وتكتب قصة نجاح لا تبدأ في الخرائط ولا تنتهي عندها، بل تُقاس بحياة الناس ومستوى فرصهم وجودة مستقبلهم.

























