الشركس: استراتيجيات نقدية متقدمة تحصّن الدينار وترسم مشهدا نقديا يدعم نمو الاقتصاد
نبأ الأردن -
في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية وتزايد الضغوط المالية الإقليمية والدولية، يواصل الدينار الأردني الحفاظ على استقراره، مدعوما بسياسة نقدية حصيفة وإدارة مؤسسية مستقلة مكنت الاقتصاد الوطني من تجاوز تحديات غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة.
وفي هذا السياق، قدم محافظ البنك المركزي الأردني، الدكتور عادل الشركس، في مقابلة مع وكالة الأنباء الأردنية (بترا)، قراءة معمقة لمشهد الاستقرار النقدي في المملكة، مؤكدا أن ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية إلى مستوى يتجاوز 24.6 مليار دولار لم يكن نتيجة ظرف استثنائي أو تدفقات مؤقتة، بل ثمرة نهج متكامل في إدارة السياسة النقدية، اعتمد على الاستباقية والمرونة وحسن توظيف أدوات البنك، بما يستبق المتغيرات العالمية ولا يكتفي بالتفاعل معها.
وأوضح الشركس، أن منظومة الاستقرار النقدي في الأردن أثبتت قدرتها على الصمود أمام ضغوط مالية وإقليمية غير مسبوقة، بدءا من الاضطرابات التي عصفت بالأسواق العالمية خلال السنوات الثلاث الماضية، مرورا بتقلبات أسعار الفائدة العالمية، وصولا إلى التوترات الجيوسياسية التي طالت المنطقة.
وأشار إلى أن قدرة البنك على تعزيز احتياطياته من نحو 18 مليار دولار إلى أكثر من 24.6 مليار دولار خلال فترة زمنية وجيزة تعكس متانة القاعدة الاقتصادية الأردنية ونجاح النظام المالي في توليد فوائض مستدامة من العملات الأجنبية عبر قنوات متعددة، شملت الصادرات الوطنية، وتحويلات العاملين في الخارج، وإيرادات القطاع السياحي، والاستثمار الأجنبي المباشر، إلى جانب التدفقات الطبيعية للسوق المصرفية.
وشدد على أن نجاح الأردن في حماية استقراره النقدي لم يكن أمرا مفروضا بحكم الواقع، بل جاء نتيجة إدارة حصيفة تستند إلى استقلالية مؤسسية راسخة مكنت البنك من اتخاذ قراراته بمعزل عن الضغوط الآنية أو الاعتبارات قصيرة الأمد، موضحا أن السياسة النقدية في الأردن تدار وفق نهج علمي دقيق يراقب التطورات العالمية لحظة بلحظة، ويرصد تحركات البنوك المركزية الكبرى، وتقلبات الأسواق الدولية، والاتجاهات المستقبلية في معدلات الفائدة والتضخم والسيولة، بما يضمن اتخاذ قرارات متدرجة ومتوازنة تحافظ على استقرار سعر الصرف وتكلفة التمويل دون تعريض الاقتصاد لأي اختلالات.
وأكد أن استقلالية البنك ليست مجرد نص قانوني، بل ممارسة يومية تعزز قدرة البنك على حماية الدينار والحفاظ على مستوى تنافسي من الاحتياطيات والائتمان، مشيرا إلى أن هذه الاستقلالية كانت وما تزال أحد أهم مصادر قوة الاقتصاد وعنصرا محوريا في تعزيز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، كونها تؤسس لبيئة مالية مستقرة لا تتغير بوصلتها بتغير المزاج السياسي أو المفاضلات الآنية، بل تبقى ملتزمة حصرا بهدفها الأساسي المتمثل في حماية قيمة الدينار وضمان استقرار النظام المالي.
وبين أن السياسة النقدية الأردنية قامت منذ سنوات طويلة على مبدأ الاستباقية وتحصين السوق المحلية من الصدمات الخارجية، وهو ما عزز ثقة المستثمرين بسلامة النهج النقدي وثبات الإطار المالي، لافتا إلى أن الدينار حافظ على استقراره منذ عام 1995، وأن هذا الثبات لم يكن شعارا بل التزام استراتيجي شكل الأساس الذي بنيت عليه سياسات البنك، سواء في إدارة أسعار الفائدة أو الاحتياطيات أو تنظيم النشاط المصرفي.
وأشار إلى أن قوة الدينار تمثل حجر الزاوية في بيئة الأعمال الأردنية، إذ تمنح المستثمرين القدرة على التخطيط طويل الأمد دون التعرض لمخاطر تقلبات سعر الصرف، كما تعزز تنافسية المملكة في استقطاب رؤوس الأموال الباحثة عن أسواق مستقرة ومحمية من المخاطر النقدية، مضيفا أن التصنيف الائتماني الإيجابي للأردن، والملاءة المرتفعة للقطاع المصرفي، والأطر الرقابية المحكمة، تشكل مجتمعة عناصر داعمة لهذا الاستقرار المالي.
وأوضح أن القطاع المالي الأردني يشهد تحولا نوعيا مدعوما ببنية تكنولوجية متقدمة طورها البنك خلال السنوات الماضية، مؤكدا أن منظومة المدفوعات الرقمية أصبحت جزءا محوريا من الدورة الاقتصادية، حيث يدير نظام "إي فواتيركم" تعاملات سنوية تتجاوز 21 مليار دولار، فيما تخطت تعاملات "كليك" 17 مليار دولار، إلى جانب التوسع المتزايد في استخدام البطاقات البنكية والمحافظ الإلكترونية، الأمر الذي أسهم في توسيع نطاق الشمول المالي ورفع مستوى الشفافية وتقليل كلفة التداول.
ولفت إلى أن هذه التحولات الرقمية لم تكن مجرد تحديث تقني، بل مشروع اقتصادي واسع النطاق يسهم في تسريع حركة الأموال وتنشيط القطاعات الإنتاجية وتسهيل العمليات التجارية والخدمية، وهو ما عزز ثقة المؤسسات والمستثمرين في كفاءة البنية المالية الأردنية وقدرتها على استيعاب النمو المتزايد في الخدمات الإلكترونية.
وأكد أن البنك أولى ملف الأمن السيبراني أهمية قصوى من خلال إنشاء منظومة رقابية صارمة لحماية البنية التحتية المالية من أي تهديدات، مشيرا إلى أن الأردن يعد من أوائل الدول في المنطقة التي نجحت في بناء إطار متكامل للأمن السيبراني المصرفي عبر توظيف تقنيات متقدمة، وتدريب الكوادر، وإخضاع القطاع لاختبارات دورية لتعزيز الجاهزية والوقاية.
وتطرق الشركس، إلى تطورات أسعار الفائدة، موضحا أن السياسة النقدية الأردنية تأخذ بعين الاعتبار العلاقة التاريخية بين الدينار والدولار، لكنها تستند في الوقت ذاته إلى تقييم مستمر للظروف الاقتصادية المحلية من حيث مستويات النشاط الاقتصادي والسيولة وتوجهات الائتمان.
وأكد أن أي قرار يتخذ في هذا المجال يهدف أولا إلى حماية الاستقرار النقدي، وأن البنك المركزي نجح خلال السنوات الماضية في تحقيق توازن دقيق بين احتياجات الاقتصاد الحقيقي ومتطلبات الحفاظ على سعر الصرف.
و بين أن الاقتصاد الأردني يشهد تحولا تدريجيا من مرحلة التعافي إلى مرحلة النمو الحقيقي، مع توقعات بأن يصل النمو إلى نحو 3 بالمئة في عام 2026 ويتجاوز 4 بالمئة بحلول عام 2028، مشيرا إلى أن الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك تجاوزت 24.6 مليار دولار، وهو مستوى تاريخي يغطي نحو 110 بالمئة من التزامات المملكة وفق معيار الكفاية المعتمد لدى صندوق النقد الدولي، ما يدعم استقرار سعر الصرف ويعزز الثقة بالاقتصاد.
وكشف الشركس، عن نمو تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 36 بالمئة خلال النصف الأول من العام، متوقعا استمرار هذا الزخم في ظل تحسن الأوضاع الإقليمية واستمرار الاستقرار النقدي والمالي، لافتا إلى أن تراجع معدل الدولرة إلى 17.9 بالمئة بعد أن كان 24 بالمئة يعكس تنامي الثقة بالدينار والسياسة النقدية المتبعة.
وأكد أن الأردن يقف على قاعدة نقدية ومالية أكثر صلابة، وأن قوة الاقتصاد لم تعد تقاس بمعدلات النمو فحسب، بل بقدرته على إدارة المخاطر واحتواء الصدمات وتوفير بيئة آمنة ومحفزة للاستثمار والنشاط الاقتصادي.

























