وائل منسي يكتب: الذكاء الاصطناعي كأداة لإعادة هندسة النظام العالمي: استشراف صراع القطبين بين الصين والولايات المتحدة

نبأ الأردن -
في مشهد يتغير بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية بل تحول إلى ساحة صراع استراتيجي تعيد تشكيل التوازنات العالمية. تتصدر كل من الصين والولايات المتحدة سباقًا محمومًا نحو السيطرة على هذه التكنولوجيا الثورية، حيث تتداخل الطموحات الاقتصادية مع الرهانات السياسية والعسكرية، ضمن معركة ستحدد شكل العالم في العقود المقبلة. عبر أدوات استشراف المستقبل، وبالاعتماد على تحليل سياقي معمق، يمكننا فهم المسارات المتوقعة لهذا الصراع المركب.
تشير المؤشرات التقنية إلى تفوق أمريكي ملحوظ في جانب تطوير النماذج اللغوية والذكاء التوليدي، تقوده شركات وادي السيليكون مثل OpenAI وAnthropic وGoogle DeepMind. إلا أن هذا التفوق يواجه تحديًا متصاعدًا من الصين، التي تضخ استثمارات هائلة في قطاع الذكاء الاصطناعي تجاوزت 98 مليار دولار في عام 2025، مدفوعة برؤية وطنية تسعى لتحويل التكنولوجيا إلى أداة سيادة رقمية، ورافعة هيمنة دولية جديدة.
في الولايات المتحدة، لا يزال القطاع الخاص هو المحرك الأساسي للتطور، ما يمنحها ميزة الابتكار السريع، ولكنه يعرّضها أيضًا لتقلبات داخلية حادة، من حيث فقدان الوظائف كما شهدنا في تسريحات IBM مؤخرًا، أو الجدل المستمر حول أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي، ومدى تهديده للحقوق الفردية. في المقابل، تتحرك الصين ضمن نموذج موجه من الدولة، يجعل من الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي، ويُدمج بسلاسة في استراتيجيات عسكرية ومدنية موحدة، مثل دمج نظام BeiDou كبديل جيوسياسي عن الـGPS الأمريكي.
تشير معطيات الحاضر إلى أن أمريكا تركز على تصدير نموذج أخلاقي للذكاء الاصطناعي قائم على الشفافية وحماية الخصوصية، تسعى من خلاله لبناء تحالفات مع أوروبا وآسيا، والحفاظ على نظام عالمي أحادي القطب تهيمن عليه تقنيًا وأخلاقيًا. أما الصين، فهي تستثمر في بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، تسنده تكنولوجيا مستقلة مثل الحوسبة الكمومية التي تهدد نظم التشفير العالمية، وتطبيقات AI محلية تُصدّر بكثافة إلى دول الجنوب العالمي، من إيران إلى إفريقيا وأميركا اللاتينية.
ومن منظور استشرافي، يمكن تحليل اتجاهات المستقبل عبر أدوات استشرافية مثل تحليل السيناريوهات والمنهج الديناميكي للأثر المتبادل. فالصين، إذا واصلت على هذا المسار التصاعدي في الدمج بين الذكاء الاصطناعي والبنية العسكرية والمدنية، قد تفرض خلال عقد من الزمن معيارًا عالميًا جديدًا للتكنولوجيا، قائمًا على السيادة الرقمية والانفصال عن النظام الغربي. سيناريو "التمحور الآسيوي الرقمي" يبدو مرجحًا، خاصة إذا تم كسر احتكار الغرب للبنى التحتية للمعلومة، من خلال تعميم نظم ملاحة مثل BeiDou، وشبكات سيبرانية تحمي من التسلط الخارجي.
في المقابل، تواجه أمريكا استحقاق إعادة تنظيم منظومتها الداخلية حول الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر شمولًا ومواءمة بين القطاعين العام والخاص، كي تتمكن من الحفاظ على دورها الريادي. السيناريو الأفضل للولايات المتحدة يتمثل في "الهيمنة الأخلاقية التقنية"، أي أن تبقى المورد الرئيسي للعالم في خدمات الذكاء الاصطناعي عالية القيمة والمبنية على معايير الحوكمة والابتكار المفتوح. غير أن هذا السيناريو مهدد في حال تصاعدت النزعة الحمائية، أو إذا استمرت الهجرة العكسية للعقول نحو الشرق.
من ناحية الاستخدامات العسكرية، يبدو أن الطرفين يتجهان نحو عسكرنة الذكاء الاصطناعي بوتيرة متسارعة. أمريكا أظهرت قدرتها على تطوير تقنيات نوعية مثل إرسال الطاقة عبر الليزر لمسافات طويلة – وهي خطوة تقلب المعادلات اللوجستية في الحروب بينما تستخدم الصين الذكاء الاصطناعي ضمن شبكة أوسع من التحكم الرقمي، تمتد من المراقبة البيومترية إلى أنظمة القيادة العسكرية المستقلة. هنا تبرز احتمالات التصعيد عبر ما يسمى بـ"سباق التسلح الخوارزمي"، حيث تتسابق الدول في تطوير أنظمة هجومية ودفاعية مؤتمتة بالكامل.
في هذا السياق العالمي المتحول، يتضح أن معركة الذكاء الاصطناعي ليست فقط معركة بين تقنيات أو شركات، بل بين نموذجين متباينين لتنظيم العالم: أحدهما يراهن على الانفتاح والابتكار الأخلاقي، والآخر على السيطرة التكنولوجية والسيادة الرقمية.
المسار المستقبلي سيتحدد بحسب قدرة كل طرف على استثمار مزاياه في توليد الثقة الدولية، وتحقيق التكامل بين الإنسان والآلة دون فقدان البوصلة الأخلاقية أو التوازن الاجتماعي.
إن الذكاء الاصطناعي، في جوهره، ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لإعادة تشكيل منظومة القيم والسيادة والمصالح العالمية. لذلك، فإن استشراف هذا الصراع يتطلب ليس فقط قراءة المعطيات الراهنة، بل القدرة على استباق لحظات التحول الكبرى، وتحديد المسار الذي سيختاره العالم: هل هو طريق "الهيمنة الخوارزمية الأمريكية"، أم "التوازن الرقمي متعدد الأقطاب" الذي تقترحه الصين.
في كلتا الحالتين، فإن العقد القادم سيكون عقد الذكاء الاصطناعي بلا منازع، ولكن من سيسيطر على هذا العقل؟ ومن سيوجه مساراته الأخلاقية والاجتماعية؟ هذه هي الأسئلة الكبرى التي ستُحدد مصير النظام العالمي القادم.
#وائل #منسي