د. وليد العريض يكتب: حين تتفلّت الحقيقة من خيوط الخطاب الرسمي

{title}
نبأ الأردن -
في هذا الزمن العربي المربك، بات السؤال الأخلاقي هو أفقر الأسئلة وأشدها إلحاحًا. لا أحد يعرف من الضحية ومن الجلاد لأن الأزياء اختلطت، واللغة فُسدت والخيانة باتت وجهة نظر يُروج لها على شاشات "التحليل الاستراتيجي".

لم تعد الحروب تبدأ بصاروخ بل بخبر مُفلتر، يُهيئ الضمير العام للتخلي عن آخر بقايا الحسّ الإنساني. يُطلب منك أن تتعاطف بصمت ثم أن تُشكك, ثم أن تُدين – ولكن الضحية لا الجلاد. وكل هذا يجري تحت راية "الواقعية السياسية" التي تعني في عرف هذا العالم: أن تُقبل قدم الجلاد قبل أن تصفعك مرة أخرى.

في عمق الخراب انكشفت الأكاذيب الكبرى: أن الذاكرة انتقائية وأن كثيرًا من الأصدقاء يقفون على أبواب غرف التعذيب ليعرضوا خدماتهم اللوجستية، لا لإنقاذك بل لتسريع اعترافك. هناك من يُسمّون المجازر "مأزقًا أخلاقيًا"، وهناك من يعتب على الضحية لأنها لم تُبلّغ مسبقًا عن نيتها في الصراخ!

تتكشّف الحرب لا لتُحسم، بل لتُعرّي. فإذا بالشعارات تُخزن في صناديق الإغاثة وإذا بالخرائط تُرسم على ركام البيوت وإذا بأبواق تُخبرنا أن العدو نفسه تفاجأ بهذا القدر من "المقاومة".

أما من يتحدثون عن "عقلانية الردع"، فهم ذاتهم من صمتوا عشرات السنين على خنوعٍ شامل. يريدون مقاومة لا تُزعج الأسواق، ولا تُربك العقود التجارية ولا تُقلق حلفاء المصالح. يريدون أبطالاً من ورق يكتبون شعرًا في "فيسبوك"، ويعتذرون مسبقًا عن أي إرباك قد تُسببه المقاومة الحقيقية!

وفي لحظة الحقيقة من لا يرى المجازر مجازر، لا فرق بينه وبين المجرم. ومن يشمت حين تقاوم مدينة محاصرة، فقط لأنها "من الطرف الآخر"، فقد باع آخر ما تبقى في قلبه من ماء. ليس لأن "الطرف الآخر" طاهر بالضرورة بل لأن العدو واضح والموت واضح والدم واضح… فلا مجال لدفن الضمير في طين الأيديولوجيا.

الحرب ليست مشهدًا. الحرب مرايا. من وقف مع الحق عرف نفسه ومن خذله خذلته روحه وإن وقف تحت الشمس. والذين يُشغّلون عقولهم ببرود لتفسير العدوان غالبًا ما يخافون من نتيجة واحدة: أن تنتصر المدينة التي ظنوها لن تنهض.

وأما بعد فحين يُعلن المتورطون أنفسهم رُعاة للسلام وتبدأ مشاريع "إعادة الإعمار"، تذكروا أن اليد التي دمرت لن تبني وأن الذي تواطأ على الكارثة لا يجوز له كتابة التاريخ.

لقد انقلبت الطاولة. والخوف الحقيقي الآن ليس من الموت، بل من العيش في عالم يتواطأ فيه الجميع على دفن الحقيقة، بينما تقف الحقيقة نفسها عارية، تنظر إلينا وتقول:
"من أنتم؟"
23-6-2025
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير