حمزة منصور يكتب : في ذكرى رحيل المهندس أحمد قطيش الأزايدة

{title}
نبأ الأردن -
حمزة منصور يكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم


في ذكرى رحيل المهندس أحمد قطيش الأزايدة رحمه الله تعالى
نظرات سريعة في سيرة أبي بلال
(في مقالة نشرت في٢٦ ذي الحجة ١٤١٢ هـ الموافق ۲۷ حزيران ۱۹۹۲ م)
يتساءل بعض من شيّعوا جنازة أبي بلال،أو شاركوا في تقديم العزّاء عن السّرّ الكامن وراء الجنازة التي لم ير لها نظير من قبل،والمؤتمر الثّقافي الذي استمرّ قرابة إسبوع تبارى فيه الخطباء والشّعراء والمتحدّثون في إبراز مناقب الفقيد وفاء له واعترافا بفضله،ومظاهر الحزن التي عمّت المشيّعين والمعزّين،والمقالات التي حفلت بها الصّحف والبرقيّات التي انهالت على عنوانه.والجواب ببساطة أنّ الرّاحل رجل غيرعادي،فكان وداعه غير عادي كذلك،فهو رجل متميّز. بشهادة الواقع، وشهادة كلّ من تكلّم عنه .
فلم أر في حياتي رجلا التقى عليه النّاس التقاءهم على الرّاحل الكبير،وإذا كان لا بدّ من التّفصيل في إبراز أهمّ جوانب التّميّز في حياة الرّجل فإنّي أقول :
1- إنّ أبرز صفات الفقيد القلب الكبير العامر بالحبّ،حتّى أنّ المراقب له ليشعر وكأنّه لم يبق في قلبه محلّ للكره،فهو يحبّ النّاس،كلّ النّاس،حبّا يحسّ معه كلّ من يتعامل معه أنّه الأقرب إلى قلبه، ويحبّ وطنه وأمّته حبّا يجعله يتحرّق حزنا على واقع الأمّة وحال الوطن، فالوطن لديه قطعة من القلب،والأمّة عنده كبد يمشي على الأرض.لقد كان في صدره مرجل يغلي لهوان الأمّة،وتكالب الأعداء عليها،وجهل أبنائها بالأخطارالمحدقة بها،وأولويّات المرحلة.
كان قلبه الكبير يتّسع للنّاس جميعا يحنو على ضعيفهم،ويوقّر صاحب الفضل فيهم. ويحترم مشاعرهم،لا تفارق الابتسامة محيّاه،ولا تخونه العبارة في اجتذاب قلوب الآخرين.
كان لا يعرف كلمة "لا"مع أحد يرجو خيره،وإن كان ثمن استجابته كبيرا.كنت أحسّ أنّ كلّ جهد يقدّمه يطوي صفحة من حياته،ولطالما رجوت السّائلين عنه أن لا يثقلوا عليه حرصا على صحته،لأنّني أعلم أنّه لا يستطيع إلّا أن يقول:"أبشر"حتّى ولو كان الثّمن جزءا من حياته بل كلّ حياته.
كان يعيش لأمّته وللنّاس حتّى حين اشتدّت عليه وطاة المرض،وكان حريصا على أن يعرف ما يجري على السّاحة،وكان يريد أن يطمئن على أنّ المسيرة النّيابيّة ماضية في طريقها وإلى الأمام.
كان يلّح في السّؤال على الدّوام عن مسيرة جبهة العمل الإسلامي،ويحفز محدّثيه على إنجاحها،وحين أدرك أنّه لم يعد قادرا على قيادتها تقدّم باستقالته واضعا المسؤوليّة بين يدي اللجنة التّحضيريّة لتختار أمينها العام الجديد.
كان دائم السّؤال عن أحوال الحرّيّات العامّة والمعتقلين السّياسيين،واتّحاد الطّلبة، وأداء زملائه في مجلس النّوّاب، لقد وسع قلبه النّاس جميعا .
2) العقل الكبير،والفكرالمستنير:فقد كان بصيرا بالأمور،مقدّرا للعواقب،مدركا لواقع الأمّة تماما وما يراد بها،فقد أوتي بصيرة نافذه،تتغلغل إلى أعماق النّفس الإنسانيّة، وإلى لبّ الحدث،فلا تشغله القضايا الصّغيرة،وكم كان يحزنه أن يرى غيره منشغلا في القضايا الصّغيرة،وكان يرى أنّنا مسبوقون كثيرا ولا نستطيع اللحاق أو المنافسة إلّا إذا أحسنّا ترتيب الأولويّات،وقدّمنا الأهمّ على المهمّ.وكان للكلمة عنده قدسيّتها، فلا يجوز أن تلقى على عواهنها،وربّما كلّفه ذلك غاليا،حيث كان يحرص على أن لا يصدر عنه، أو عن الكتلة النّيابيّة التي أسلمت إليه قيادها إلّا الكلمة المسؤولة المعبّرة.وكان يدرك أنّ العواطف غير المستندة إلى دراسة واعية،وفكرة واضحة لا تحقّق مصلحة.بل ربّما ترتّبت عليها مفسدة أيّ مفسدة. ولذا كان شغوفا بدراسة القضايا وصولا إلى رؤية واضحة .
3)الأدب الجمّ والتّواضع النّبيل:إنّ كلّ من عرف الفقيد رحمه الله يدرك أنّه أمام رجل بسيط المظهر،بعيد عن التكّلّف،وافر الأدب،عظيم الحياء،ألف مألوف،طلق المحيّا، مع من يعرف ومن لا يعرف،ومع من عظم شأنه،أوهان على كثيرمن النّاس أمره، تستوقفه المرأة والصّبي.وذو الحاجة،يحنو عليهم ويجبر خواطرهم.
4) الوضوح والصّراحة:كان يصدر عن رؤية واضحة وراسخة شكّلها لديه منهج واضح،وعقل راجح،وتأمّل عميق فيطرح فكرته بين إخوانه وأمام أقرانه بوضوح تامّ،وصراحة لا تعرف التّردّد،ولا الالتواء،فهو واثق من نفسه،مقتنع بفكرته،مؤمن بأنّه يبغي الخير،والصّالح العام.ولكنّها صراحة محبّبه،ووضوح يدعوللإعجاب ويدفع سامعيه إلى الاقتناع برأیه ،والانحياز له،على أنّ هذا الوضوح والصّراحة لا يمنعانه إذا تبيّن له أنّ الحقّ بجانب محدّثه أن يعلن تنازله عن رأيه لصالح الحقّ،لأنّ الحقّ قديم،والحكمة ضالة المؤمن.
5)الكرم الفيّاض: لقد أجمع كلّ الذين عرفوه أنّ أبا بلال كان كريم النّفس،جوادا يكرم ضيفه،بل يتمنّى الضّيف فهو من ذلك الصّنف الذي وصفه الشّاعر العربي بقوله:
تلقاه إذا ما جئته متهّللا كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
كان ينطلق من قاعدة"من كان يؤمن بالله واليوم الآخرفليكرم ضيفه"رواه الشّيخان، فكان لسان حاله يقول:لن تجدني بخيلا،فهو في ميزان البذل مقدام،رغم أنّ دیونه في إقالة العثرات،وتفريج الكربات أثقلت كاهله .
وكان كرمه لا يقف عند الجانب المادّي،فقد كان سخيّا في كلّ شيء،في وقته وماله وجهده ونصيحته.
6) الحلم والصّبر:كان رحمه الله عظيم الصّبر،كثير الاحتمال،يقابل الجهل بالحلم، والانفعال بالرّويّة،يترفق بمحدّثه،حتّى يهدّيء ثورة نفسه،ولا يزيده جهل الجهول إلّا حلما على أنّ هذا الحلم ليس على حساب المباديء،فإذا ما هدأت ثورة محدّثه راح يوضح فكرته لتجد لها مستقرّا في نفسه،أمّا صبره فقد تجلّى أروع ما يكون أثناء مرضه،هذا المرض العضال الذي ينهار أمامه الرّجال،أمّا فقيدنا فلم نسمعه يشكوإلى عوّاده،أو يتأفّف لمصابه كان راضيا بقضاء الله،محتسبا عنده،شاكرا لأنعمه،صابرا على بلواه، لم يستسلم للمرض رغم هجومه عليه بشراسة،فقد كان معنيّا بادواء الأمّة وعللها أكثر من عنايته بعلّته. وكان لسان حاله يقول: إنّ في القرن العشرين من يصبر صبر أيوب عليه السّلام.
7) القيادة الملّهمة:لقد أتيح لأبي بلال أن يمارس أشكالا شتّى من القيادة في صورة كتلة حينا،أو لجنة حينا آخر،أو وفد،أو فريق عمل أوغير ذلك.وتتباين مشارب الذين يتعاملون معه ورؤاهم ومناهجهم ويقدّر طاقاتهم،ويرشّد مسيرتهم،وينمّي استعداداتهم بحيث يحسّون أنّهم أمام قائد يقودهم بالحكمة ويدير العمل بالشّورى ،ويرتقي بهم إلى مستوى التّحدّيات،ويؤمن بأنّ لدى الأفراد طاقات مذخورة ينبغي استخراجها واستثمارها،ويدرك أنّ الوقت ثمين لا يجوز أن يهدر جزء منه في غيرمردود حقيقي.وكان مبادرا لكنّ المبادرة لديه ليست مبادرة المتسرّع العجول،فتأتي مبادرته هادئة متّزنة تنفذ إلى شغاف القلب،فلا يملك السّامع إلّا أن يقول:أثنّي على ذلك.وكان قادراعلى إيقاف التّصرّف الخاطيء وتحويله إلى جادّة الطّريق دون أن يحرج المخطيء أو يخدش مشاعره .
ولو رحت أستعرض سجايا أبي بلال لما وجدت سجيّة كريمة،أو خصلة حميدة،إلّا كانت له خلقا وطبعا.ولذا أستطيع أن أقول وأنا مطمئّن البال:"كان خلقه القرآن" اقتداء بالقائد القدوة صلّى الله عليه وسلّم.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير