عائشة الخواجا تكتب: بعيداً ... تحت سماء الكرامة

نبأ الأردن -
توجهنا اليوم إلى موروث العز والكرامة الخالدة ، حاملين معنا في القلب وعلى اللسان كلمة مغلفة بشتى أنواع الجمال والهيبة ، تشبه صندوق كنز طافح بدرر الأرض وتبر التراب الحاضن لرفات ودماء الأبطال والشهداء الأكرم منا جميعا !!!
قبل الوصول إلى نصب الجندي ( المعروف ) لدينا وصاحب الروح المرفرفة في خيلائنا وامتشاق هاماتنا وارتفاع رؤوسنا ، تلمسنا باقة الورود البيضاء والحمراء ورفيف النرجس المتبقي في حدائقنا المعطرة ، والذي تعمدت أن أقطفه وأواريه المزهرية قبل أن يجف في جذوره تحت الشمس لأصففه مع الأزهار المعبرة عن زاوية من جمال جنة الشهداء هؤلاء ! وقبل النزول طبعت دمعة على الباقة بين الأكاليل الكثيرة التي تراكمت تحت قدمي الجندي ( المعروف لدينا ) وحينما هممت مع الضيوف الذين حضروا من لبنان وضيفين من الجزائر وأخرى صديقة من مصر ، وكلهم يقرأون عن قمر النصر والفخر في الأردن العروبي وما سطره الجيش الأردني الباسل وأخوتهم الفدائيون يداً ببندقية وشهامة ، انقشعت ابتسامات على وجوههم وقد فرحوا وهللوا خلال تناولنا العشاء في بيتي ليلة الواحد والعشرين من آذار الجميل ، استبشرت الجباه لدى سماعهم فكرة زيارة الكرامة وهي فكرتي وفكرة زوجي الطيار المقاتل والذي حلق لستة وعشرين عاماً صقراً في فضاء الوطن ، فعمت وجوه الضيوف سعادة والحق يقال كأنهم قد وجدوا ضالتهم العروبية بالاقتراب من أرض البطولة وأيضاً زيارتها !! وهناك اشتركنا كلنا بحمل باقة الورود الضخمة وكأن كل كف أرادت سبحان الله أن تضع بصمتها على رؤوس الورد تهدي الفاتحة والفخار لروح الأبطال ، صببنا بعض المياه على أحواض الخضرة والورد الجميلة حول عملاق النصب من قوارير الماء التي أحضرناها وكانت شمس الظهيرة تنبيء بالنسيم والندى وبعض بزوغ حرارة فائقة تتوسط الأغوار ، لكن النضار وربيع الوطن كان مهيمنا يفرش سجادة على جانبي المسارات إلى قلب الكرامة إياها ، تلك الكرامة التي نتغنى بها ونقرض الشعر !! وحدث ولا حرج عن مشاعر الجنود والبواسل والأبطال على طرقات الوطن .
كانت السيارة تمخر لباب وعباب الربيع الاخضر في قرية الكرامة وتتداخل في جنباتها وشوارعها ببطء وكأننا كلنا مع الضيوف قد صممنا على التقاط الصور والفيديوهات لأسطورة صد الجيش الصهيوني الذي لا يقهر ، فتم قهره ووقف بطل الكرامة هائلا الجسد الممشوق نحو السماء يرتقي ! بدأت أرتجف وتهتز ركبتاي وتصغر عيناي في عدسة الكاميرا ورحت أتشبث باطراف نافذة المركبة أخرج راسي وتنهمر من عيني السخونة ، حتى لا يراني الضيوف الذين راحوا يلتقطون الصور وهم يتمتمون وأكاد أفسر كل تمتمة كما أفهم تمتماتي أنا ، وفجأة طلبت من زوجي أن يتوقف بنا بالقرب من مسجد الكرامة على الشارع العام لنلتقط الكثير من الصور ، كما التقطنا طوال الطريق وسط زحام شوارعها وبيوتها ومبانيها وجنباتها الفقيرة المدمرة المكدسة الخراب ، وكان الصمت والذهول يسيطران على الضيوف كأن على رؤوسهم الغراب ، أما أنا فجلل العرق والإستحياء جبيني وتلعثم زوجي وتنهد حتى بلل الهول رؤوسنا لشدة المفاجأة حين سألت صديقتي الدكتورة ونيسة من الجزائر : لماذا توقفنا هنا في هذا المكان الخرابة ؟ وقال زوجها الضيف : الأفضل أن نكمل طريقنا لنصل إلى الكرامة ونتمتع بروعتها وجمالها ونكسب الوقت !!
طأطأ زوجي رأسه وعض على شفتيه وهو ينظر في وجهي كمن يريد أن يوجه لكمة لي ، وقد نفخ أوداجه واعتصر عينيه فأدركت وفهمت بأن غضبه ينطق ويقول : فضحتينا ... وعزرتي علينا ... !!! ويا ريت ما جينا ...كان لازم اكتفينا بوضع الورد للجندي المعروف ورجعنا !
وفجأة صمتت الخلويات عن التصوير وترهلت الأيدي وطلبنا العودة إلى السيارة ، لنكمل المشوار !!
كانت أغنية وطنية تنطلق بأعلى مكبرات الصوت من متجر حزين ويصطف بجانبه متاجر سوداء محطمة وسيارات خردة ونفايات كالجبال وأشجار مكسرة متهدلة رغم اخضرار الفصل ، والطرقات منخورة تدب عليها حفر كأنها من مخلفات حرب البسوس والبسس ، والناس تمضي دائخة والمسجد الشاهد على النصر والعزة وإسم الكرامة كما يليق الإسم على المسمى . مطرز بالقذائف والرصاص الناتيء على المئذنة وجدران المسجد ، مخروم الجدران مشقق الجبين لشدة رمي الرصاص القديم .. والدمار يعم المكان من ألف الكرامة إلى تاء التأنيث الخصبة بالدم . شاهدنا العزة التي يسهم مسؤولو الوطن بتعزيزها مجسدة بالإهمال المضاعف والبشاعة وانخفاض مستويات الخدمات والبنى التحتية واضحة للعيان دون شهود ! وبالفعل كأن كل مسؤول اعمى أصم ابكم يريدها شوهاء ضاربا باسمها وعزتها اكاذيب انتمائه !!
لا يضيره قمرها ولا يعنيه نجمها ولا حمرة دماء رجالها الشهداء الأكرم منا جميعا ...يهملونها ويبصقون على أشجارها وحجارتها الركام ويغضون أبصارهم المفترية بكذبة الوفاء لمجد الكرامة ! يلصقون بوصفها كلمة ( خرابه ) .. آه يا كرامة التاريخ والعزة وصمود جيشك المرابط فوق فراش دمائه الساخنة الفائرة ...إني جريحة حزينة محرجة أمام لوعة طعناتك ذات السابعة والخمسين ربيعا ...
للحق والوطن وحق الكرامة على كل صاحب مخ وضمير أن يستيقظ لإعمار الجمال والرعاية والخدمات في كرامة الأمة ! بدل أن تظل مكرهة بصرية ومعمارية كأنها واقعة من طيارة على ارتفاع أربعين ألف قدم ! ، وتساءلت وأنا أرضخ واغطس تحت وابل من زخات الوجع :هل هذه هي الكرامة التي هي عنوان النصر الوحيد الذي أورثنا إياه أبطال ورجال ضحوا بالغالي والدم والنفيس لنرفع رؤوسنا ؟ هل هذه هي الكرامة التي وقف على كتفها الجيش البطل العربي الذي يشهد له شموخ الأمة العربية جمعاء ؟؟؟ هل هذه هي الكرامة ؟ وكانت أفضل خضرة وجمالاً وخدمات ومشهداً وكل سنة تزداد وجعا وتراجعا وخرابا ، والأشجار والطرقات والمتاجر والبيارات تنبيء بالعويل والهجر ؟ فما الذي جرجرها إلى الوراء حتى باتت خرابة محطمة الكيان والمشهد البصري لدرجة التقيوء ؟؟؟
كيف يحتفل المسؤولون ورجال حناجر ممثلي الأمة بالكرامة وهم يرونها بما هي عليه تستعطفهم بالله زوروني وألبسوني حلة الجواب إن كنت ألفت انتباهكم ؟
.....
دعونا نتبرع من دمائنا لنعمر الكرامة ، ونبرزها بهية منتصرة على الدمار والعثار ...نبرزها للناظر والشاهد والزائر ولعينها الحبيبة لوطن يحتفل بها بعيدا عنها !!!
نروح إليها بقلوبنا الصادقة ننعشها ونحممها ونعطرها ونلبسها أجمل ثياب العزة والفخر والكرامة ...
ننتشلها من دموعها وحسراتها بعيداً عن الأرض المحروقة ونصافح الناس المدقعة الحال والأحوال والكرامة الوثيرة الرجال ، لماذا لا ينظر المسؤولون لهذا القلب النابض بالعزة ؟ أين السياحة والتخطيط والبلديات والقوات المسلحة صاحبة الشأن وأين بصيرة الإدارة التي ترصد الأموال للإحتفال ؟؟؟ لماذا يهجرونها في واد سحيق منسي كأنها لا تمت للإعمار والتاريخ وهوية الشهامة والتخطيط بعلاقة ؟ إن كان السر يكمن بأنها لا تستحق فقولوها علناً حتى لا نعود نحتفي إلا ببعدنا عنها في العاصمة فقط ؟ ونترك الأزهار تبكي غريبة الديار فوق مرافيء الأبطال !!!
نتفق لبناء ورفع سوية مصطلح الكرامة ونهدر المال والورود والأغاني والأوراق ، نعم ... ونتفق في نفس الزمن بأن نبني الكرامة ( قرية المجد والنصر ) وتضحي مزاراً للناس من مشارق العرب ومغاربهم ، يصورونها ويتفيأون ظلال الجمال الحقيقي الطبيعي وينطقون بكلمات : تعالوا إلى الكرامة ففيها تخلد الربيع بدم النصر أجمل من ورود هولندا !!!!