د. ماجد الخواجا : إنها حرب إبادة للشعب والهوية والحق التاريخي
نبأ الأردن -
طالما كانت المدن هي أكبر ضحايا الحروب، ولكنها في كثير من الأحوال تحولت إلى مقابر للغزاة وهزمت جيوشاً عظيمة وغيرت مسارت الحروب، وفي هذا التقرير نرصد أشهر معارك وحروب المدن في العصور الحديثة. من بين العشرين معركة الأكثر دموية في التاريخ، التي رصدها موقع أطلس العالم World Atlas هناك نحو 18 معركة دارت في المدن كلياً أو جزئياً أو في محيطها أو كانت عبارة عن حصار لمدن. لقد أدّى التوسع الحضري إلى واقع لم يسبق له مثيل يجد فيه المدنيون أنفسهم في خضم القتال، واقع يقترن باعتمادهم على بنى تحتية حيوية لكن هشة. ونتيجة ذلك فالمدنيين هم من يتحملون وِزر الحروب في المدن. وحين تتعرض المدن للتفجيرات والقصف، تكون غالبية الإصابات والضحايا من المدنيين. بذريعة ملاحقة قيادي من حماس، تم تدمير المستشفيات والمباني وقتل مئات المدنيين والمرضى، تماماً كما يحدث في الضاحية الجنوبية التي هي في الواقع من أكثر الأماكن المكتظة بالسكان الفقراء والمهجرّين بالأساس ، وهي لم تعد ضاحية، بل أصبحت في وسط بيروت بمبانيها الشعبية المتلاصقة حالها كحال غزّة.
مهما كانت القراءات لما يجري من عدوان هو الأبشع والأفظع الذي مرّ في التاريخ المعاصر، يعيش قطاع غزة حصاراً خانقاً وقيوداً أمنية مشددة منذ 18 عاماً، بلغ أشد فتراته قسوة وأفظعها أثراً خلال العدوان الأخير المستمر منذ الـسابع من تشرين الأول 2023. ويعرّف الحصار Blockade بأنه عملية تطويق منطقة معينة، تهدف على مر التاريخ إلى حمل المدن المحاصرة على الاستسلام والخضوع للمحتل. نعم هناك حروب وحصارات غاية في الوحشية ومنها حصار فولجا جراد والتي أعيد تسميتها بستالينغراد، استمرّت من آب 1942 حتى شباط 1943. كانت حملة عسكرية وحشية بين القوات الروسية وقوات ألمانيا النازية. وشهدت المدينة قتل أكثر من مليوني جندي، وجُرح ما يقرب من مليوني شخص. وهناك الحصار طويل الأمد لمدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ) والذي استمر منذ 8 أيلول 1941 إلى 27 كانون الثاني 1944 في الاتحاد السوفييتي من قبل القوات المسلحة الألمانية والفنلندية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد استمر الحصار 872 يوماً. وهو الحصار الذي وصف الرئيس بوتين ما يجري في غزة مثيلاً له. هناك حصار البوسنة والهرسك وكوسوفو، حوصرت مدينة سراييفو من قبل قوات صرب البوسنة في الفترة من 5 نيسان 1992 إلى 29 شباط 1996، ويعدّ أطول حصار في تاريخ أوروبا الحديث خلال القرن العشرين. ولم ينته إلا بعد رضوخ الصرب والقبول باتفاقية دايتون. هناك حصارات لدول مثل حصار العراق الذي امتد ما بين عامي1990- 2003، وهنا نذكر حصار بغداد من قبل المغول الذي أبداوا أهلها وحضارتها وتراثها.
هناك حروب لا مثيل لها في القسوة كالحرب الكورية والحرب اليابانية الصينية وحروب بريطانيا في المستعمرات، وحروب ألمانيا في إفريقيا، وحروب إيطاليا في ليبيا، وفرنسا في الجزائر.
ما زالت سجلات التاريخ تحتفظ لنا بحوادث ووقائع أشهر أنواع الحصار منذ القدم، وأشهرها حصار طروادة وحصار القسطنطينية، وحصار عكا، حصار برلين وفيينا، حصار بيروت، في كل هذه الوقائع كان هناك تكافؤ، أو شبه تكافؤ بين القوى المتحاربة، ولا شك أن أبشع وأكثر أنواع الحصار ضراوة وخسة ووحشية، والتى لن تمحى من سجلات التاريخ هو حصار غزة. إنه حصار ممتد منذ عقود طويلة، حصار شديد الإحكام برا بواسطة أسوار خرسانية وحديدية عازلة، وبحرا من خلال زوارق وسفن حربية ورقابة دقيقة ليل نهار، وجوا من خلال الأقمار الصناعية وأحدث أجهزة الرصد والتنصت، أما أهل غزة المساكين والذين يتجاوز تعدادهم مليوني نسمة فإنهم يعيشون في ظروف غير إنسانية، بل إنهم يعيشون فى أكبر سجن مفتوح، سجن حقيقي، مع ندرة الغذاء وشح المياه وانقطاع الكهرباء وتهالك البنية التحتية، والغارات البربرية الوحشية المتواصلة بأحدث الطائرات التي تقتل الأبرياء وتدمر البيوت وتثير الذعر والفزع.
لكن ما يجري في غزّة ومناطق السلطة الفلسطينية غير مسبوق من حيث أنه بثّ حيّ ومباشر يشاهده العالم بأسره لحظة وقوعه، وهو الفريد في أن العالم قد ألجم تماماً ولا يفعل شيئاً غير المشاهدة وإبداء بعض الحزن.
لا مكان آمن ولا مكان يمكن اللجوء إليه، فقط تنقل قسري تحت العذاب، في كل يوم، يعدّون أنفسهم، من بقي ومن ارتقى ومن اختفى. الكل مستهدف ينتظر دوره، لا علاقة لما يردده أركان صهيون بملاحقة حماس وقياداتها، فالصف الأول والثاني وربما الثالث في حزب الله وحماس استهدفتهم آلة الغدر والقتل الصهيونية.
لم يبق مجال لأي تخيّل روائي أو قصصي يمكن أن يحيكه كاتب روائي إلا وحدث أفظع منه في غزّة وبيروت. ولنا عودة.