د.تيسير أبو عاصي يكتب : من بريق الذاكرة .. " شارع السعادة / الزرقاء

{title}
نبأ الأردن -
 في الزرقاء المدينة الوديعة البسيطة كان بيتنا وكانت حارتنا وكانت طفولتنا ، اودعنا ذكرياتنا ما بين التلافيف والشغاف يسافر اليها حجيج من الشوق والتوق والتمني ، شارع السعادة كان يختال القا في زرقائنا الجميلة ، كانت البيوت تصطف على جانبي الطريق كأنها حرس تستعرضه فخرا وشمما .

 كان بيتنا كما البيوت يأوينا ويدفئنا ويطعمنا ويعلمنا ويربينا ويأخذ بيدنا الى مراتب العلم ، نأتمر بالهام واحضان وظلال والدين كبيرين عظيمين عبدوا لنا الدروب بالكد والكفاح والأثر الطيب .

في حينا كنت اعيش ، اذكر خيوط الشمس كيف تسري حاملة هباء يعلن حضورها معلنة بداية يوم جديد ، نسمع اجراس المرياع في قطيع يسير في الشارع معلنا بأن الحليب قادم للبيع ، فنشتري حليبا طازجا يوميا ، لا يلبث ان يقرع الباب عامل الفرن ليأخذ العجين ويعود به بعد حين خبزا ناضجا شهيا .
كان البائعون الجوالون كثر ؛ من عربة الخضار الى بائع الفلافل بالسلة القش صباحا وبائعة التوت بالطبق على رأسها وميزانها الشقال وبائع يستبدل الكراكيب العتيقة بادوات منزلية جديدة الى بائعي الهرايس والاكلة الطيبه ( الشعيبيات او الوربات بالجوز والجبن ) واللوكس على العربة وبائع الداندورما (البوظه) والسمسمية والجوز هند والكيكس والكريزه والسحلب ....

كما ذاك الهباء الذي كان يرافق امتداد الاشعة ، فإن مشاهدا من ذاك الماضي الطفولي الجميل تعانق ذاكرتي التي باتت على مقربة الخمسين عاما ويزيد :

كان اليوم يعلن اشراقه بصوت خافت يشق سكون الفجر من المذياع حيث المرحوم الوالد يبحث عن اخبار العالم من خلال اذاعة لندن وصوت العرب وعمان .
مدرستي مدرسة محمد الخامس بمعلميها الرائعين وطلابها الجميلين وغرفها الصفية وجرسها وحصصها واذاعتها المدرسية ومجلة الحائط وعصا العقاب وعريف الصف ..
اما الطلاب فرأسهم الحليق على الصفر ، وأما القسط السنوي الرمزي فهو 35 قرشا .

 في حينا دكاكين صغيرة اهمها واقربها بقالة ابو محمود وابوبكر ، تجد البقالة عند ابومحمود تحفة في تنوع بضاعتها وتصنيفها ، نجد شرشور الاسبرو ومساة صناعة الجبن ونكاشة البابور ومادة الكاز وزيت الزيتون وصابون النابلسي واللوكس والبالموليف والسيرف والتايد واضراس النيله ، السكر والأرز المصري والايطالي ، الطحين الابيض والزيرو والاول باب ، قفص معدني معلق بالسقف وفي ارضيته بعض القش او قصاصات الورق للحفاظ على البيض سالما،
في احد اركان الدكان صندوق خشبي صغير له واجهة زجاجية وفي داخله خبز مثقوب في المنتصف كان يسمى خبز كهرباء ، كان البيع بمعظمه دينا الى اخر الشهر حيث بكون الراتب المنتظر وكان توثيق الدين على دفتر يحتفظ به الزبون هذا الدفتر عرفناه وألفناه بغلاف اسود صغير يمثل بطاقه السحب والشراء في ايامنا هذه ولكن هذه المرة دون باسويرد ( الرقم السري ) .

ابوبكر ببقالته وزاويته المألوفة كان متميزا في سهره الى ساعات متأخرة وقد تكون على موعد مع خيوط الفجر .

 كان طبيبنا هو الدكتور امين ابو الرب الذي كان بوجهه البشوش ونكتته الحاضرة وصوته الإذاعي الأجش يستقبل المريض فيقيس حرارته اولا واذا كانت الشكوى اللوز ( بنات الاذان ) كما انا حينئذ ؛ يمسح الحلق واللوز بقطنة على رأس ملقط بمادة طبية مطهرة معلنا البدء بمشوار التشخيص والعلاج .

 في حينا كان صحن الحمص والفول والفلافل من مطعم الحجاوي الاقرب الى منزلنا وكانت البركة والتآزر تتجسد في ذلك حيث الصحن بقرش الى قرش ونصف ، و 4 حبات فلافل بتعريفه .

 سهرة التلفزيون كانت تبدأ في السادسة مساء حيث يبدأ البث في سوريا المحطة الوحيدة التي تصلنا ، تبعتها المحطة الاردنية التي بدأت ببث تجريبي قصير ، اما معاناة تحسين الصورة فكانت معاناة حاضرة تحتاج الى ثلاثة انفار واحد امام الشاشة والآخر ليحرك ماسورة الأنتين على سطح العمارة اما الثالث ففي منطقة وسطية مسموعة لدى الجهتين ، وتبدأ المعايرة والمقارنة الى ان ينتهي الأمر الى افضل وضوح واقل تشويش ممكن ، واما التشويش فلا بد ان يبقى رغم كل شيء ، البرامج كانت ما بين افلام الكرتون ميكي ماوس و باباي وبرامج فكر واربح مع المذيع عمر الخطيب ، المصارعة مع رافع شاهين وبيتر وتيبر زكش وضربة السوينغ التي كانا يشتهران بها ، ممسلسلات مقالب غوار ومضافة ابومفلح وفارس ونجود ودليلة ، ومن المسلسلات الاجنبية : البطل ، بيتون بليس ، رحلة في اعماق البحار ، الهارب ، غزاة الفضاء .... ، اما يوم الجمعة فهناك الفلم العربي .

كثيرة هي اللقطات المتلألئة التي تتوهج في الذاكرة :
العابنا الطفولية الزقطة وعالي وطوط ( والجلول ) والطماية و 7 حجار هوائية وطائرة الورق وللبنات لعبة النطة (شبرا امرا) وبيت بيوت ....
اما هناك لعبة لم تكن مستساغة الا من قبل القائم بها من طفل مشاكس هنا وهناك ، وحتى الان لم اجد لها تفسيرا يبررها وهي قرع الباب او الجرس والفرار !!!!
 هذه باقة من بريق الذاكرة حين كان الفرح اكثر نقاء ، وحين كان الناس يعيشون معا ويتنعمون بقناعة ان الحياة لا تصح الا بالتآزر والتعاضد وأن احتياجهم لرباط العادات والتقاليد ما هي الا مادة لتمتين الأواصر الجمعية بينهم بدعوى الحاجة اكثر منها من باب الواجب .
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير