د.تيسير أبوعاصي يكتب : ( ترقومية )
نبأ الأردن -
هناك بين البيوتات الترابية القديمة ورائحة الطابون، بين طيبة الفلاح وخُرَّافِ الكبار (بضم الخاء وتشديد الراء) وهم يتحلَّقون حولَ الكانون، ينساب الحديثُ على أسِنَّة القهر. صولاتٌ تمخرُ عُبابَ الذاكرة وجولاتٌ تسبِرُ أعماق الألم ..
كان ذلك الطفلُ يعدو ويلعب في أماسي الدفء والأحاديث الخافتة المحتشمة؛ تحسُّبًا من فُجور مُسترِقي السمع ومن (آذان الحيطان).
بساطة العيش هناك ومنغصاتها المحببة، نواميسُ تنتصب للوقاية من الحشرات والناموس، منديل رقيق تُغَطَّى به الكيلة (إناء ماء الشرب) خوفًا من الحشرات، (والضو) نمرة 2 و 4 . تلك الأماسي كان يتلقى فيها ذلك الطفل عناصرَ إيجابيةً للنقش في مُخيلته الطفولية عالمًا كرتونيًا ساحرًا بامتياز. تتسربُ إلى مسامعه مُخترقةً تجلياتِ مساحته المحببة، وفضاءه المتوهج أبياتُ شعرٍ، للشاعر أبو سلمى:
فلسطين الحبيبة كيف أحيا
بعيدًا عن سهولك والهضابِ
هي ترقومية؛
القرية الفلسطينية الجميلة الوادعة من قضاء الخليل .. وأما هو فطفلٌ يحتضن سيرتي ومعالمي. والدُه ضابطٌ آنذاك في القوات المسلحة الأردنية عام 1963 ...
. تعتَّقت القصيدةُ في خابية الذاكرة ... بقيت تحتل مكانتها إلى أن سجلت الأيامُ حكايةَ فعلٍ جديدٍ، نُزوحًا وقهرًا وتشريدًا، ومخيمًا جديدًا؛ لكن باختلاف المَقرِّ، فأتت قصيدةُ زهرة المدائن، وكانت القضيةُ تكمن بين نسيج الصباح ومساء يومٍ أو يومين، فهدَّدَت وتوعدت:
بأن الغضبَّ الساطعَ آتٍ ..
قفز الصباحُ إلى حدود الأفق، فضجت العَبَراتُ بذكرى خطى في دروب (أيام لبلاد) وأزقتها، ملاعب الفرح هناك حيث تنأى المسافاتُ ما بيننا ..
فكانت القصيدةُ بمطلعها:
سنرجع يومًا إلى حيِّنا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يطول الزمان
وتنأى المسافاتُ ما بيننا...
أما الآن فها هي غزةُ تنهضُ وتسطر ملاحمَ من الخيال، وتفتح للمجد أبوابًا، وتلقِّن الصهاينةَ شذاذَ الآفاق دروسًا لم يألفوها ولم يعرفوها ...
وما بين الحق السليب وتوثُّب التحدي وإرادة العنقاء طائر الفينيق ستعقدُ الساحاتُ أفراحَها ويضجُّ الفضاءُ زغاريدَ، وينبلجُ في هذا الشرق يومٌ بمواصفاتٍ جديدةٍ وستنتثر في فضاءاتنا ألفُ أغنية وقصيدة، ويعيد التاريخ صياغة أيامِنا المُقبِلات بأحرفٍ من نورٍ وأغصانِ زيتونٍ وشاراتِ نصرٍ قريبٍ.

























