ميسر السردية تكتب : محطات من الذاكرة.. قصص الكيلاني

{title}
نبأ الأردن -

هذا عنوان المذكرات الشخصية التي كتبها الصديق الأديب الطبيب الجزائري بشوني كيلاني و شرفني بنسخة منها سافرت بين محطاتها كمن يقطع مسافة زمنية حالما بعيدا عن ضوضاء التفاصيل المملة.
تبدأ المذكرات من بيت الجد البدوي الذي باشرت قبيلته كمعظم القبائل العربية حياة الإستقرار عقب مراحل الترحال ماقبل منتصف القرن المنصرم، حيث تشكلت بدايات النمط الزراعي وتبدلات علاقات الإنتاج جراء الفعل المستقر لأهل البادية.
يصور الكاتب بعين سينمائية غدواته وروحاته مرافقا جده ممتطيا حماره من وإلى "القابة" وهذه لفظة القبائل الهلالية التي تقلب حرف الغين لقافٍ، كما نسمعها على ألسن قبائل مشرقية أيضا.
تحس في وصفه لرحلة الغابة المزروعة بشتى الأصناف من نخيل وتين ورمان وكأنك تقفز من فوق أقنية الماء وتستمع لما يدور بين المزارعين والجد الذي يجهل الحفيد كيف تعلم القراءة والكتابة حتى صار حاملا لدفتر يسجل به أدوار السقاية وما لهم وما عليهم من أمور.
بشوني الذي أطلقت عليه جدته اسم كيلاني نسبة لعبد القادر الجيلاني بعد رؤية زعمت أنها رأتها في منامها يحاول حفظ الشعر و الأمثال من جده واصفا طريقة نقل العادات والتقاليد من الكبار للصغار في مفهوم تربية الأسرة الممتدة لأولاده قبيل تواريها في عصرنا الحالي لتحل محلها الأسرة النووية التي فقدت منها حلقة تأثير الأجداد في التنشئة ، حيث يتم ذلك عن طريق ملازمة جده الدي يستحوذ على مساحة ذاكرته في كل مشاويره التي يقضي من خلالها حاجات عائلته، سواء أكان ذلك بإرتياد سوق السبت الذي تتجمع به الناس وتُعرض فيه البضائع من كل شكل ولون أو المشاوير الأخرى كزيارة "الحّجام"إذ يحافظ الجد على إجراء الحجامة دوريا كنوع من التداوي الشائع آنذاك والذي مازال مستمرا في معظم بيئاتنا.
بعد أن نتخيل دهشة الطفل وفضوله حول صندوق جده الذي لم يعلم كل ما حوى عدا مخطوطة قديمة للمصحف الشريف، يتحدث المُتذكر عن جدته وكأنه يصف المرأة العربية ملامح حياة المرأة العربية وليس جدته التي اشتهرت ببيع حوائج الطب البديل والتي يوميا تنقل الحطب والماء وتقوم بكل ما يتطلبه بيتها من رعاية وعناية منزلية غير مهملة بنفسها وزينتها وتسابيحها في ذات الوقت.
يحدد صديقنا عام ١٩٧٦ كبداية لدخول التلفزيون قريتهم، مثل كل من رأوا التلفاز لأول مرة في حياتهم، حيث تجمع الكل في بيت سي موسى بإنتظار مشاهدة المعجزة المغلقة التي أسمتها الجدة "الشواف" والتي بعدما دخل التلفزيون بيتها كانت تغطي وجهها وتدير ظهرها له معتقدة أن الرجال يرونها من خلف الشاشة.
تفيض الصور الواضحة في حياة الطفل مابين الكُتاب وعصى" الطالب " وهذه كنية شيخ الكتاب ومابين المدرسة وأول صفعة يتلقاها ظلما لأنه لم يشي بزملائه المشاغبين، لينتقل لاحقا للإندهاش بوصول معلمة من بنات المدينة كاشفة عن رأسها، مرتدية ثيابا غير ما درجت عليه عادات أزياء نساء القرية. مع تلك المعلمة تظهر بداية صراع الطفل مابين ما تعلمه وتشربه من عادات وتقاليد ومابين الجرأة والتردد والخوف والتحفظ عندما طلبت معلمتهم منهم تقبيلها بإعتبارهم أولادها.
في محطة أخرى تتغبش صورة الطبيب وطريقة تعامله مع مرضاه بطريقة رأها الطفل فوقية متعجرفة عندما أخذه والده للكشف عليه بعد معانته ضيق تنفس وقد تكون تلك نقطة تحول كبيرة في مستقبله حيث رسخت في ذهنه فكرة دراسة الطب ليصير طبيبا فعلا.
لا يكتفى الأهل بإبر الطبيب ووصفته فكان لابد من سحب الطفل بعد فترة إلى الشيخ كي يرقيه، قد يكون حسدا أو عينا، ويتذكر في عجالة أنه كان على أحرّ من الجمر لكي يفلت من بين يدي الشيخ، وهذه محطة أيضا أحدثت حوادثها في عقله انفراجات جديدة حيث اتجه للتعمق بعدما شب عوده لقراءة العلوم الشرعية والمنطق والفلسفة لقناعته أن الشيخ يبيع الوهم والخرفات والدجل ولو عن غير قصد.
تمر محطة المراهقة بيسر فيما يتعلق بفورة الغرائز والمشاغبات إذ يؤثر إطار التنشئة لتوجيهه نحو التفكر والتدبر وسبر فجوات الذهن وطرح الأسئلة حول ماهو معقول وغير معقول مما يسمع ويرى في حركة محيطه الإجتماعي.
تبدأ المذكرات بتلويحة الوداع مع المرور على ما حدث في عقد الثمانينات وبداية تصارع ايدولوجي مابين جيلين وفئتين وحدوث جدالات عميقة حيث ظهرت على السطح فئة متدينة بإفكار طارئة على طبيعة المجتمع أطلق عليها الناس لقب"الخوانجية" ويصف أن هذه الجماعة التي بدأت تعقد الاجتماعات المسماة"اسرية" والتي غالبا ما كانت تتصف بالسرية فراحت تحاول جذب الناشئة والمنتسبين الجدد وغرس مفاهيم الجماعة بعقولهم على اعتبار أنها - الجماعة- الوحيدة القادرة على استرجاع مجد الأمة.
يذكر كاتبنا أيضا بروز الوهابية وصدام الأهالي معها دفاعا عن معتقداتهم خاصة فيما يتعلق بزيارة الأضزحة وإقامة المولد النبوي وما إلى هنالك من مروثات اعتمادها الناس.
يتذكر الكيلاني انه حضر اجتماعات تلك الجماعات إما لإشباع فضوله بالإطلاع او تلبية لدعوات أصدقاء، وصلت والده وشايات تخبره بإنضمام ولده لتلك البؤرات خشية تأثره وإنقلابه على مجتمعه البسيط.. لكن أصرّ الوالد متواضع التعليم واسع المدارك بترك المجال و الخيار لأبنه ليمحص بنفسه ماجد على حركة مجتمعهم وما طرأ من أفكار وافدة… ننتظر الجزء الآخر من مذكراته التي تصور الحياة في بلد نحب الإطلاع على طبيعته من كل نواحيها…










تابعوا نبأ الأردن على