د.حسن براري يكتب : الخديعة الكبرى

نبأ الأردن -
نجحت إسرائيل بدهاء معهود في نسج خيوط خديعة كبرى استطاعت من خلالها أن تذر الرماد في عيون العالم وتوهم القريب والبعيد بأن حملتها العسكرية الضارية على غزة ما هي إلا سعي لاستعادة رهائن. غير أن الحقيقة الساطعة التي تحجبها ضوضاء الإعلام ومراوغات الدبلوماسية تقول شيئاً آخر، فلو كان الهدف بالفعل إنقاذ أولئك الرهائن، لقبلت تل أبيب بعروض استردادهم دفعة واحدة، ولما استمرت في حرب تستنزف جنودها وتزجّ بهم في أزقة غزة حيث يُذبحون بلا هدف عسكري واضح. وبكل تأكيد اشفت اسرائيل غليلها بقتل وجرح نسبة عالية من سكان القطاع، وعليه فهي ليست معركة انتقام كما يردد بعض المحللين السياسيين والعسكريين.
نخطئ كثيرًا عندما نقرأ الاختلافات الإسرائيلية الداخلية ونراهن عليها، فالاختلافات هناك تدور حول ترتيب الأولويات لا حول جوهر الأهداف. كما نخطئ مرة أخرى حين نبني استراتيجياتنا استنادًا إلى ما تقوله المعارضة الإسرائيلية لأننا ربما لم نستوعب بعد كيف تدار التعددية والاختلاف داخل كيان وُلد من رحم التناقضات لكنه يُحسن توظيفها لخدمة مشروعه الاستيطاني والاستعماري بقوة واتساق. وعليه، فقد اشترينا الوهم المرة تلو الأخرى!!!!
الحقيقة الجلية أن هذه الحرب ليست سوى واجهة لغاية أكبر، بل غاية وحيدة تتمثل في تهجير الفلسطينيين وإحداث نكبة ثانية، فهي ليست حرباً تقليدية بل عملية اقتلاع ممنهجة، حيث يستخدم جيش نظامي متطور قوته ضد شعب أعزل، في محاولة لخلق واقع ديموغرافي جديد. هذه هي البوصلة الحقيقية، وكل ما عداها من سرديات ليس سوى غطاء دخاني يُحجب به العقل عن رؤية المشروع الصهيوني كما هو: توسعي، استراتيجي، يعمل ببطء ولكن بثبات.
وقد أدركت إسرائيل، من خلال قراءة دقيقة لتحولات الإقليم، أن إنجاح مشروع التهجير لا يمر إلا عبر تحطيم ما تبقى من محور الممانعة، وقد مضت في ذلك شوطاً بعيداً. أما الآن، وبعد أن اعتقدت أن الطريق بات ممهدا، فقد حان لها أن تقطف الثمرة، مستفيدة من انشغال الجميع بالجزئيات.
في المقابل، لا نزال في عالمنا العربي والإسلامي غارقين في لعبة اللوم وتبادل الاتهامات، تائهين بين تخوين هذا الفصيل أو ذاك الزعيم، فيما تمر أمام أعيننا معركة وجودية يتغير فيها شكل الشرق الأوسط ويعاد رسم خرائطه وفقاً لعقل استراتيجي يشتغل في تل أبيب، لا في عواصمنا المنهكة بالانقسام والانتظار.
إسرائيل لا تتصرف برد فعل، بل تخطط لجيل قادم. وهي تدرك أن القنبلة الديمغرافية الفلسطينية قابلة للانفجار في وجهها، ولذلك تعمل على تأجيل لحظة الانفجار أو منعها، بأي ثمن. أما من لا يرى ذلك، فهو ضحية خديعة كبرى… وغداً لناظره قريب.