د. وليد العريض يكتب:البرد ولا الموت… صرخة شتاء في وجه الاستهتار
نبأ الأردن -
دعونا نقولها بوضوح وبصوتٍ عالٍ يخترق برد السماء: البرد أهون من الموت، والبرد أرحم من الاختناق، والبرد لا يقتل كما تقتل النار العمياء.
أيها الناس، أيها الآباء والأمهات، لا تحوّلوا بيوتكم إلى أفخاخ. لا تشعلوا وسائل التدفئة من دون وعي، ولا تحاصروا أبناءكم بالكاز والغاز وتغلقوا النوافذ كأنكم تحاصرون الهواء نفسه. افتحوا شقًّا للحياة، فالدخان لا يُنذر، والاختناق لا يرحم، والنار لا تفهم حسن النيّات.
في يومين فقط، فقدنا تسعة أرواح. لم يكونوا أرقامًا في نشرة أخبار، بل عائلات انطفأت دفعة واحدة. رحمهم الله جميعًا. والحق يُقال: ما حدث لم يكن قدرًا فقط، بل نتيجة فقر، وإهمال، وضعف وعي، وثقافة "الله يستر” التي تقتل أكثر مما تحمي.
بين مسؤولية الدولة وواجب المواطن
الحق يُقال: الدولة تحذّر، والدفاع المدني ينشر، ووسائل الإعلام تذكّر كل شتاء. لكن هل تكفي النصيحة حين لا تُسمع داخل البيوت؟ وهل تستطيع الدولة أن تكون في كل منزل، وتراقب كل مدفأة، وتمنع كل خطأ؟
لا. هنا تبدأ مسؤولية المواطن.
لكن الحق يُقال أيضًا: الدولة تتساهل كثيرًا خارج البيوت، في الشارع، حيث يصبح الاستهتار علنيًا، وحيث يتحوّل الخطأ إلى عادة، والمخالفة إلى عرف.
الطريق في الشتاء… حين يغيب الضوء ويحضر الخطر
مع الغروب الشتوي المبكر، تبدأ فوضى مألوفة: سيارات تسير بلا أضواء، كأن السائق يقول للعالم: "أنا أرى الطريق، والباقي ليس مهمًا”. والحقيقة أن الضوء ليس لتراك الطريق فقط، بل ليراك الآخرون.
في كثير من دول العالم، تُفرض الإضاءة الكاملة طوال فصل الشتاء، احترامًا للحياة. أما عندنا، فالضوء اختياري، مثل الالتزام، مثل الإشارة، مثل الذوق العام. ثم إذا وقع الحادث، بحثنا عن "قضاء وقدر”، ونسينا أن القدر لا يقود سيارة بلا نور.
المطر يكشف العيوب
وحين تمطر السماء، تنكشف أخلاق السير. الزحام يتحوّل إلى غابة، والقانون يصبح رأيًا شخصيًا، والأولوية للأجرأ لا للأحق. الأخطر أن السائق الملتزم أصبح مضطرًا للتنازل للمخالف، ليس احترامًا له، بل خوفًا من المشاجرات أو الأذى.
خذوا مثالًا يعرفه الجميع: إشارة الصريح باتجاه إربد. العودة عكس السير من محطة البنزين أصبحت ممارسة يومية، والمخالفة صارت قاعدة، ومن يسير صحيحًا يُنظر إليه كأنه غريب عن المكان. هذه ليست مشكلة مرور فقط، بل خلل أخلاقي وسلوكي خطير.
حين تصبح "اللهم نفسي” قانونًا
في القيادة، كما في كثير من تفاصيل الحياة، سادت ثقافة "اللهم نفسي”. لم يعد السؤال: من له الأولوية؟ بل: من يفرض نفسه أكثر؟ وهنا لا تكفي الشرطة وحدها، ولا الكاميرات وحدها، لأن القانون الذي لا يُحترم في الضمير لا تحميه ألف إشارة.
الحل… مسؤولية مشتركة
على الدولة تشديد الرقابة والعقوبات المرورية بلا استثناء، وفرض الإضاءة الإلزامية شتاءً، ومعالجة النقاط السوداء بحضور دائم، لا بعد وقوع الكوارث، إلى جانب حملات توعية حقيقية لا موسمية.
وعلى المواطن أن يختار البرد على الموت، وأن يفهم أن المخالفة ليست شطارة، وأن الطريق ملك للجميع، لا ساحة صراع، وأن التنازل عن الحق خوفًا لا يمنع الكارثة، بل يؤجلها.
وختاما
الشتاء ليس عدوًّا. العدو الحقيقي هو الاستهتار، واللامبالاة، وثقافة "امشّيها”. فلنفتح النوافذ، ولنضيء الطرق، ولنحترم القانون، كي لا يتحوّل كل منخفض جوي إلى نشرة عزاء.
























