د. وليد العريض يكتب:الغابة التي لا يُستجاب فيها الدعاء
نبأ الأردن -
بصيغة خرائط الواقع وتزوير الذاكرة
…
لم يكن تغيير شكل القمر
ولا إعادة ترسيم حدود الغابة،
إلا مقدّماتٍ صغيرة
لأكبر مشروعٍ أقدمت عليه الثعالب:
مشروع "تاريخ الغابة الجديد”
أعلنت الثعالب بكلّ وقاحة مطمئنة،
عن تأسيس المعهد الوطنيّ لإعادة كتابة تاريخ الغابة.
وضعت شعارًا كبيرًا فوق مقره الجديد:
التاريخ… ملكُ من يحكم،
لا من عاش.
لم تفهم الحيواناتُ العبارة،
لكن الغراب فهم،
والبومةُ صمتت كأن سكينًا غُرست في حكمتها.
الخطوة الأولى: حذف الماضي
بدأت اللجنة أعمالها فورًا.
جمعت كلّ السجلات القديمة:
حكايات الغزلان،
أناشيد العصافير،
مواثيق الذئاب القديمة،
شهادات السلحفاة العجوز
ودفاتر البوم التي وثّقت أسرارَ الغابة قرونًا.
ثم أصدرت قرارها الأول:
يُمنع تداول أي وثيقة عمرها أكثر من عشر سنوات.
الماضي… مرحلة غير مُستقرة ولا يُعوَّل عليها.
أُحرقت دفاتر البوم
وصودرت خرائطُ الماء القديمة
وحُذفت قصص الجدّات التي علّمت الصغار معنى الأرض.
حتى الشجرة التي جرى تحتها أول قسمٍ للولاء بين الذئاب
أُزيلت بحجة التطوير العمراني.
الغابة شاهدت المشهد…
وشعرت أن ذاكرتها تُسحب منها كما تُسحب الروح.
الخطوة الثانية: صناعة أبطالٍ جدد
في النسخة الجديدة من تاريخ الغابة،
اختفت كلمة ثعلب” تمامًا.
استُبدلت بـ الأسلاف المؤسسون.
أمّا الذئاب—التي حمت أطراف الغابة من الغزاة
فأُعيد تعريفها في الكتب المدرسية:
الذئابُ كائناتٌ متهوّرة
هددت الأمن والاستقرار
قبل أن تُعيد الثعالبُ توجيهها.
الغزلانُ، تلك الكائنات التي حملت الجمال على أكتافها
وُصفت بأنها مخلوقاتٌ حسّاسة تحتاج وصاية.
السناجب التي حفظت بذور الغابة من المجاعة
وُسمت بأنها تخزن أكثر مما تحتاج.
حتى البومة—أكثر الكائنات حكمة—
تحوّلت في الكتب الجديدة إلى: طائرٍ مثيرٍ للجدل
ينشر الشائعات حول القرارات الوطنية.
الخطوة الثالثة: خلق ذاكرة رسمية جديدة
أقيم احتفالٌ كبير
لإطلاق النسخة الحديثة من تاريخ الغابة.
رفعت القرود لافتةً ضخمة:
من لا يتعلّم التاريخ الجديد…
لا يحق له العيش في الغابة الجديدة.
وصفّقت الحميرُ بإخلاصٍ شديد.
لم تفهم شيئًا…
لكنّها تصفّق حين يُطلب منها.
في تلك الليلة،
كان القمر المشوّه يراقب
وضوءه يميل كما تميل الخرائط،
ويتوجّه حيث تُرسم الأكاذيب.
الذاكرة الممنوعة… وأوّل كتاب مقاومة
لم يكن الجميع صامتًا.
في أعماق الغابة
وبعيدًا عن عيون الثعالب،
التقت البومةُ مع السلحفاة العجوز
والذبابة الرمادية التي تسمع أكثر مما تتكلم.
كان الغراب حاضرًا،
يحمل في جناحيه رماد الحقيقة.
قالت البومة:
ليس أخطر من تزوير الجغرافيا…
إلا تزوير الذاكرة.
من يملك التاريخ…
يملك المستقبل.
فردّ الغراب:
لهذا…
سنكتب كتابًا ممنوعًا.
ثم أحضر لوحًا خشبيًا من الشجرة المحترقة،
ونقر عليه:
هذا تاريخ الغابة الحقيقي
مكتوبٌ بجرحٍ لا يُشوَّه.
كان هذا أول كتابٍ مقاوم
يكتب في الظلام
ضدّ خرائط السلطة.
كتابٌ لا تُكتب صفحاته بالحبر
بل بالوفاء.
لحظة الانكشاف:
في الفجر التالي،
لاحظت الحيوانات شيئًا غريبًا:
القمر المشوَّه
بدأ يفقد لمعانه.
الضوء المركَّز على قصور الثعالب
بدأ يتلاشى.
وظلٌّ خافتٌ عاد إلى الحقول العطشى.
وكأن السماء بدأت تستعيد أصالتها.
همست السلحفاة العجوز:
الضوء يعرف أصله
وإن ضلّ الطريق يومًا.
بينما قال الغراب:
الحلقة القادمة…
ستكون لحظة الصدام:
حين تُكتشف النسخة الممنوعة من التاريخ.
ثم طار
والظلام خلفه
يبدو وكأنه يتراجع خطوة.

























