امل خضر تكتب: حين صمت الملك فتكلم الوطن…
نبأ الأردن -
ثلاث رسائل أسقطت الضجيج لم أكتب هذا المقال من قراءة واحدة للخطاب؛ بل عدت إليه مرارًا، أقرأه كما يُقرأ كتابٌ يغمز ولا يصرّح. ففي كل مرة كنت أكتشف أن ما قيل ليس كل ما أراده الملك أن يُفهم. الكلمات كانت واضحة، لكن ما بين السطور كان أكثر جرأة وعمقًا وإيحاءً.ومع تكرار القراءة، تكشّفت أمامي تلك الرسائل التي لا تُقال في اللقاءات الرسمية ولا تُلتقط في التحليلات السريعة. رسائل تحتاج إلى عينٍ لا تنخدع بالعبارات الجاهزة، وإلى أذنٍ تسمع ما وراء الصمت.
ومن هنا وُلد هذا المقال؛ من رغبة في الإمساك بالمعنى الحقيقي للخطاب، ذلك المعنى الذي لا يظهر إلا حين نعيد القراءة… لا لنفهم النص، بل لنفهم اللحظة التي كُتب فيها النص.لم يكن خطاب الملك مجرّد مناسبة دستورية تُتلى على مسامع الحاضرين، بل كان لحظة تظهر فيها ملامح الدولة حين تختبرها العواصف. ففي الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات، وتشابكت فيه التحليلات، اختار الملك الصمت المدروس… الصمت الذي لا يعني الغياب، بل يعني أن القيادة تتحدث بلغة أخرى،لغة الرسائل الخفيّة التي لا يُسمع صداها إلا لمن يملك وعياً أعمق من الكلمات.
في تلك اللحظة، لم يتكلم الملك وحده؛
تكلم الوطن،وتكلمت التجربة الأردنية التي تعلّمت عبر عقود أن القوة ليست في شدة النبرة، بل في ثبات البوصلة.
ومن بين سطور الخطاب خرجت ثلاث رسائل هادئة…
لكنها أسقطت الضجيج كلّه.
الرسالة الأولى_ الدولة لا تُدار بردود الفعل… بل بثبات الرؤية
لم يقل الملك هذا بصيغته الحرفية، لكنه كان واضحًا في إشاراته:
أن الأردن، رغم ضغط المرحلة، لم ينزل إلى مستوى الضجيج، ولم يتورط في ردود الأفعال، بل حافظ على مسار ثابت لا تحركه الاستفزازات ولا التوقعات الخارجية.
هذه الرسالة موجهة لمن أراد قياس الأردن بعيون اللحظة لا بعيون التاريخ.وموجهة لمن ظن أن هشاشة المنطقة تعني هشاشة القرار.
وموجهة – قبل ذلك كله – للشعب كي يفهم أن الدولة حين تختار التريّث، فهي لا تتراجع… بل تضبط الإيقاع.
الخطاب قال بصمتٍ واضح .....
"لسنا دولة تبحث عن مشهد انتصار عابر، نحن دولة تبحث عن معادلة كرامة دائمة.”
الرسالة الثانية_ الإصلاح ليس شعارًا… بل معركة هادئة تُبنى بلا ضوءفي ظاهر الخطاب، كانت هناك دعوة للعمل والتقدم.
لكن في باطنه، كانت هناك حقيقة أعمق أن الملك يطالب بأن نفهم أن الإصلاح الحقيقي يحدث خلف الكواليس، في المؤسسات، في تغيير العقلية، في كسر البيروقراطية، وفي إعادة هيكلة ما تراكم لعقود.
لم يقلها الملك، لكن الخطاب لمح إليها بوضوح الإصلاح ليس قرارًا واحدًا… بل تراكم إرادة.
هو ليس ورقة تُعلن… بل بناء يستنزف الصبر ويستولد النتائج ببطء، لكنه ثبات لا يتراجع.
والرسالة هنا كانت حاسمة في عمقها:
"من يريد نتائج بلا صبر… لن يرى من الإصلاح إلا القشور.”
الرسالة الثالثة_ أن الأمن ليس جهازًا… بل علاقة ثقة بين الملك والشعب حين أشار الخطاب إلى استقرار الأردن وثبات مؤسساته، لم يكن الحديث عن الأمن بمعناه التقليدي، بل عن تلك العلاقة العميقة بين القيادة والناس.العلاقة التي تجعل الدولة تقف على قدميها رغم العواصف، لأن لحمتها الاجتماعية والسياسية تعمل كجدار واحد.
لم يقل الملك: "أنا أثق بالشعب”، لكنه قالها بطريقة أخرى:
في نبرة الهدوء.
في توازن الكلمات.في وضوح أن الثقة ليست مجاملة… بل معادلة بقاء.
هذه الرسالة كانت موجهة لمن يشكك، ولمن ينتظر لحظة ضعف، ولمن يظن أن الاستقرار هدية تأتي بلا ثمن.فالأردن ثابت لأن الثقة هي السلاح الأعمق، والأكثر صدقًا، والأشد تأثيرًا.
تلك الرسائل الثلاث لم تُقرأ من الورق، لكنها قُرئت من بين السطور.
هي رسائل تشبه الملك نفسه:
هادئة، رصينة، لا تبحث عن ضوء الكاميرا، لكنها تهز القاعة حين تُفهم.
خطاب الملك لم يكن مناسبة بروتوكولية…
كان بيانًا للصمت الذي يتكلم حين تكون الكلمات وحدها غير كافية؛
وكان إعلانًا أن الأردن لا يرفع صوته… لأنه واثق من صدى مواقفه وقوة شعبه.

























