د. سميرة الزيود تكتب:الكبتاجون بين ضغط الواقع وتصدّع الوعي: كيف يسقط الشباب في فخ الهروب؟
نبأ الأردن -
بقلم:
* د. سميرة الزيود
* مستشارة تربوية وأسرية
* أستاذ مساعد / جامعة فيلادلفيا
في مشهد يتسارع فيه الإيقاع وتضيق فيه فسحات الراحة، يقف الشباب —بشكل عام، والطلبة خصوصًا— أمام تحديات متشابكة تحاصرهم من كل اتجاه: ضغوط أسرية، تطلعات اقتصادية، تنافسية اجتماعية، وعبء إثبات الذات في عالم لم يعد يمنحهم الوقت لالتقاط الأنفاس.
وسط هذا المشهد المضطرب، تبرز ظاهرة الهروب إلى المخدرات المُنَبِّهة، وعلى رأسها "الكبتاجون"، كواحدة من أخطر مسارات الانزلاق النفسي والتربوي.
أولًا: ضغط الواقع… حين يختنق الشاب بين ما يريد وما يُطلب منه
يشهد الشباب اليوم ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الضغوط النفسية. ومن أهم أسباب هذا الضغط:
* * صراع التطلعات الشخصية مع توقعات المجتمع:
الشاب يريد أن ينجح، أن يثبت ذاته، أن يبني مستقبله. وفي المقابل، ينتظر منه المجتمع إنجازًا سريعًا وصورة "مثالية" بلا أخطاء.
* * الإنهاك المعرفي والعبء الذهني:
يعيش الطلبة بشكل خاص —في جميع المؤسسات التعليمية— ضغطًا مستمرًا يتمثل في: متطلبات دراسية، تقييمات متراكمة، وسباق على المعدلات؛ وكأن المستقبل يُختصر في أرقام، لا في قدرات وإمكانات.
* * غياب مهارات التكيف النفسي:
التشتت الذهني، والقلق، وضعف إدارة الوقت، وعدم معرفة آليات ضبط التوتر، كلها مساحات فارغة تجعل الشاب لقمة سهلة لأي وسيلة "تبدو" وكأنها تمنحه تركيزًا زائفًا أو طاقة سحرية مؤقتة
ثانيًا: لماذا الكبتاجون؟ وما الذي يدفع الشباب إلى طرقه؟
هناك عوامل متعددة تدفع الشباب تحديدًا نحو هذا النوع من المُنَبِّهات:
* الوهم الأكبر: "التركيز والطاقة":
يظن كثير من الشباب أن الكبتاجون يرفع مستوى الطاقة والقدرة على الإنجاز أو الدراسة. بينما الحقيقة العلمية ثابتة: جرعاته تُحفِّز الدماغ مؤقتًا... ثم تدمره تدريجيًا. ما يعتقده البعض حلًا سحريًا هو في الحقيقة بوابة واسعة إلى الإدمان، والانهيار العصبي، وتراجع القدرات الفكرية والذاكرة.
* ضغط المجموعات وقلق المقارنة:
حين يرى الشاب محيطه يلجأ لوسائل غير صحية "لتحسين الأداء"، يبدأ شعور خطير يراوده: "ربما أنا متأخر... ربما الجرعة ستمنحني ما ينقصني."
* غياب ثقافة الوعي الصحي:
لا تتوفر لدى كثير من الشباب ثقافة علمية دقيقة حول آثار المنبهات، ولا تربية نفسية تدعم فهم الضغوط وإدارتها بطريقة صحيحة.
ثالثًا: البعد الديني… حين يفقد القلب بوصلته
قدَّم الإسلام رؤية تربوية عميقة تعالج الضغوط قبل أن تتحول إلى سلوك مدمر، ترتكز على مبدأ حفظ النفس:
* حماية النفس والجسد: قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
* كل مُدمِن يُلقي بنفسه إلى التهلكة جسدًا وروحًا وعقلًا، ويقع في دائرة الإضرار بالنفس المُحرَّم شرعًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار."
* البعد الديني هنا ليس خطابًا وعظيًا فحسب، بل حماية نفسية تمنح الشاب قدرة على إدراك خطورة الاعتداء على بدنه وصحته ووعيه. حين يقترب الشاب من ربه، يستعيد اتزانه الداخلي ويعرف أن النجاح لا يأتي من فرص وهمية، بل من جهد مُبارك وراحة قلبية. مصداقًا لقوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
رابعًا: دور المؤسسات التعليمية… مسؤولية تتجاوز القاعات
المؤسسات التعليمية —بمختلف مستوياتها— ليست مجرد أماكن للتلقين، بل هي منظومات تربوية يُفترض أن تقوم على:
* بناء برامج دعم نفسي حقيقي: تفعيل دور المستشارين، وعقد جلسات الإرشاد، وورش إدارة الضغوط، والتدريب على مهارات التنظيم الذاتي. هذه ليست كماليات، بل ضرورة لحماية وعي الشباب.
* تعزيز ثقافة الحوار: الشاب لا يلجأ للمخدر إلا حين يفقد مكانًا يسمع صوته. لذا، تحتاج كل مؤسسة إلى "أُذُن تربوية" لا تحكم، بل تُرشد.
* تنفيذ حملات توعوية: عقد ورش عمل تدريبية للتوعية بالآثار الدوائية، والأبعاد القانونية، والمخاطر النفسية والاجتماعية والأمنية.
* ملء وقت الطالب بالنافع: نشر ثقافة العمل التطوعي، وإقامة الندوات والمحاضرات التوعوية والأنشطة الرياضية المختلفة، لأن الفراغ أكبر عدو للإنسان.
* الربط بين المسؤولية الوطنية والسلوك الفردي: كل شاب يحمل في سلوكه مستقبل وطنه، وكل سقوط في الإدمان ليس سقوطًا شخصيًا فحسب، بل نزيفًا في طاقات الوطن.
* تفعيل أنشطة الحياة الجامعية: الأنشطة الثقافية والفنية والتطوعية، كلها متنفسات تمنح الشباب "طاقة صحية" تصرف توترهم بدل تحويله إلى ضغط قاتل.
خامسًا: دور المجتمع… حين يصبح الشريك الأول في الحل
تقع مسؤولية الحماية على عاتق جميع مكونات المجتمع:
* الأسرة: أول خط دفاع تربوي:
حين يتلقى الشاب دعمًا عاطفيًا وتفهمًا، تقل احتمالية الهروب إلى طرق خطيرة. يجب الاعتماد على الحوار، والمراقبة الذكية، والاحتواء بدلًا من العقاب والعنف والقمع، واستخدام أسلوب الاستجواب التحفيزي والحوار الحر لمنح الثقة للشاب.
* الإعلام: صناعة وعي لا صناعة خوف:
دور الإعلام ليس الترهيب فقط، بل تقديم قصص وعي، تفسير علمي دقيق، وطرق بديلة لإدارة الضغط.
* مؤسسات الدولة: مسؤولية وطنية:
تفعيل القانون، وتكثيف التوعية، وضبط الترويج، ودعم برامج الصحة النفسية، كلها عناصر تشكل منظومة حماية وطنية متكاملة.
الخلاصة: خطاب تربوي جديد
نحن بحاجة إلى خطاب يقول للشباب: النجاح الحقيقي ليس سباقًا تُنهك فيه نفسك... بل بناء متوازن بين علم وإيمان ونفس مطمئنة وسلام داخلي وإنجاز حقيقي.
إن ظاهرة لجوء الشباب إلى الكبتاجون ليست انحرافًا منفردًا، بل نتيجة ضغوط مُركَّبة تتشابك فيها الأبعاد النفسية والدينية والتعليمية والاجتماعية. ومواجهتها لا تكون باللوم، بل ببناء وعي جديد، وتأسيس بيئة تعليمية وتربوية مسؤولة، وربط السلوك الفردي بالضمير الديني والواجب الوطني.
فالشباب هم طاقة الأمة وثروتها، وكل جهد يُبذل لحمايتهم هو حماية لوطنٍ كامل، لا لأفراد فقط.

























