م.صلاح طه عبيدات يكتب : العقيد محمود الموسى العبيدات بطل من زمن الكبار

{title}
نبأ الأردن -
في بلدة كفرسوم، على أطراف الشمال الأردني، وُلد عام 1914 رجل لم يكن كغيره من الرجال. كان القدر يصوغ له مسارًا غير مألوفًا، مسارًا تكتبه البنادق حين تصمت الكلمات، وتصدح به المواقف حين يخفت صوت الزيف. إنه العقيد محمود الموسى العبيدات، ابن الأرض التي تنجب الصادقين، وفارس الحق الذي عبر الزمن حاملًا في قلبه لغة المجد، وفي عقله فكرة الحرية، وفي روحه قسم الوفاء للوطن.

ما إن اشتد عوده حتى لبّى نداء العروبة، وكان أول من خطى بجزمته العسكرية تراب القدس ضمن سرية الأمن الأولى عام 1948، فكان أن سطر اسمه في لوح التاريخ في معركة النوتردام، حيث امتزج الدم بالمقدس، والصبر بالرصاص، فانبعث من بين الركام نصرٌ حفر اسمه في وجدان الأجيال، حتى أن قصة هذه الملحمة تحولت إلى رسم في مجلة أطفال، وكأن الطفولة ذاتها أرادت أن تحفظ له عرفانها الأبدي.

لم يكن مجرد مقاتل؛ بل عقلٌ عسكري أدرك باكرًا أن الانتصار لا يكون بالبنادق وحدها، بل بالمؤسسات. فأسس أولى اللبنات الصلبة لما نعرفه اليوم بمديرية الاستخبارات العسكرية، حين كانت تُدعى الاستطلاع العسكري، وتبعها بتأسيس مديرية الأمن العسكري، التي سُمّيت حينها بالقلم السياسي، في تحدٍ صريح للفكر الاستعماري البريطاني الذي زعم أن الأردنيين عاجزون عن قيادة جيشهم بعد تعريب القيادة عام 1956. لكنه –كعادته– لم يجادل، بل أنجز، فكان الإنجاز ردًا مدويًا، والفعل أبلغ من القول.

رغم تدريبه العسكري في بريطانيا، لم يُغْرِه بريق لندن، ولم يُطفئ نوره وهج الوطنية. صرّح بمرارة الحكيم: "مؤدبون في وطنهم، أما خارج بلادهم فتجدهم شياطين." كأنه ينحت بهذه الكلمات مرآة تنعكس فيها صورة الاستعمار، لا كما يُقدّم نفسه، بل كما هو في جوهره.

وما كان لعقله الحر أن يرضى بالقيود، فكان من أول من نادى بإنشاء مجلس عشيرة العبيدات، يؤمن بأن العشيرة حين تتحد، تصير وطناً مصغّراً لا يُقهر، وأن العمل الجماعي هو حجر الأساس في بناء الوطن.

حين دبّت الخيانة في الظلال، واتُهم مع الضباط الأحرار بتقويض الحكم، لم يرضخ ولم يطلب الصفح، بل اختار المنفى في سوريا، حاملًا كرامته على كتفيه، ورافضًا العودة رغم الوعود باستعادة منصبه وحقوقه. إنها كبرياء الفرسان، الذين يؤمنون أن المناصب تُعرض ولا تُطلب، وأن الرجوع بلا عدالة خيانة للذات. ومن المفارقات المؤلمة أن من عادوا بعده، اعتلوا المناصب، فيما هو بقي في ضمير التاريخ حرًا، طليقًا، شامخًا.

لم تنتهِ الحكاية بانسحاب جسده من المشهد، فقد أورث روحه لأبنائه، ومن بينهم اللواء الطبيبة منى عبيدات، التي حملت عام 2016 راية والدها فصارت أول امرأة في شمال الأردن تتوشح رتبة لواء في الجيش، كأن البطولة عندهم ليست اختيارًا، بل فطرة.

تكريمه لم يكن مجرد اسم على لافتة، بل شارع في الصويفية يحمل روحه، يهمس للعابرين أن المجد لا يضيع. وسيرته التي جمعها محمود سعد عبيدات في كتاب "المجاهد العقيد محمود الموسى العبيدات: بطل معارك القدس القديمة وفارسها"، ليست حبرًا على ورق، بل تعويذة ضد النسيان.

محمود الموسى العبيدات لم يكن جنديًا عاديًا، بل حالة وعي وموقف، رجلٌ إذا سار في التاريخ خلّف أثرًا، وإذا غاب عن المشهد، ظل حاضرًا في الضمائر.
في زمن تتكاثر فيه الأقنعة، كان وجهه كتابًا مفتوحًا للصدق.
وفي عالم يغري بالركوع، كانت قامته صلاة.
رحل الجسد، لكن العبيدات لا يزال بيننا: صوتًا، سيرةً، وراية لا تُطوى.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير