زياد العليمي يكتب: "حُـرقةُ العزاءِ في عينِ الباشا... حينَ يقتحمُ الداعِمُ لظُلمِ غزةَ بيتَ الشَّعبِ في عين الباشا: جدليةُ الرفضِ ونفاقُ البروتوكول!"
نبأ الأردن -
المقدمة: حينما يختلط المأتم بالاستنكار
في مشهدٍ تراجيدي لا يُنسى، انشطرتْ ساحةُ العزاءِ في بيتِ الشَّعبِ بعينِ الباشا إلى شطرين: شطرٌ يُوارِي حزنَهُ على رحيلِ ، احدى ابناء البقعه، وآخرٌ يُوارِي غضبَهُ واستنكارَهُ من زيارةٍ لم تكن في الحسبان. لقد كانت زيارة السفير الأمريكي، الداعم الأبرز للكيان الذي يمارس السحق والحرق بحق أهلنا في غزة، بمثابة الشَّررِ الذي أيقظَ جَذوةَ الجدلِ في أعماقِ الحضورِ وفي الوجدانِ الشعبيِّ برمَّتِه.
هذه ليست مجرد زيارة بروتوكولية عابرة، بل هي اقتحامٌ رمزيٌّ لمعقلِ الوجدانِ الأردنيِّ المتضامنِ حتى النُّخاعِ مع قضيتِهِ المركزية. في توقيتٍ باتَ فيه الدعمُ الأمريكيُّ للآلةِ العسكريةِ الصهيونيةِ يُمثِّلُ الوقودَ المباشرَ لمحرقةِ الأبرياءِ في القطاعِ المحاصر، كيفَ يُمكنُ استقبالُ هذا الداعمِ في بيتِ العزاءِ الذي هو عنوانُ الكرامةِ والتعاطفِ الوطني؟
جدليةُ الحضورِ وغيابُ المنطقِ الأخلاقي
إنَّ الاستنكارَ الشعبيَّ الذي رافقَ هذه الزيارةَ لم يكنْ محضَ انفعالٍ عاطفيٍّ، بل كانَ تعبيرًا عميقًا عن جدليةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ مُركَّبة. كيفَ يتسنَّى لمُمثِّلِ دولةٍ تُرْسِلُ القنابلَ والطائراتِ التي تُمزِّقُ أجسادَ أطفالِ غزةَ، أن يأتيَ مُعزِّيًا في فقيدٍ أردنيٍّ؟ هل يُرادُ لهذا العزاءِ أن يكونَ جسرًا لتبييضِ صفحةِ الدعمِ الأعمى للظلمِ والعدوان؟
هنا تكمنُ المعضلةُ: فبيتُ العزاءِ هو مكانُ التطهيرِ الروحيِّ والتعبيرِ الصادقِ عن الحزنِ المشترك. وعندما يُقرِّرُ السفيرُ الأمريكيُّ "التَّشَرُّفَ" بهذا الحضورِ غيرِ المرغوبِ فيه، فإنهُ يُدخِلُ إلى ساحةِ الحزنِ فيروسَ النفاقِ السياسيِّ، مُحاولًا فصلَ دورِهِ كـ "دبلوماسيٍّ" عن دورِ دولتِهِ كـ "شريكٍ مُتَغَوِّلٍ" في مأساةِ فلسطين. هذا الفصلُ، في نظرِ الشَّعبِ الأردنيِّ، هو فصلٌ زائفٌ لا يمكنُ قبوله.
الترابطُ الجدليُّ: عينُ الباشا تقرأُ ما يجري في غزة
لا يمكنُ قراءةُ ردِّ الفعلِ في عينِ الباشا بمعزلٍ عن صورةِ غزةَ المُلتهبة. فكلُّ مواطنٍ رأى في زيارةِ السفيرِ تحدِّيًا صارخًا لمشاعرِهِ المتأجِّجة. إنَّ ترابطَ الكلماتِ هنا ليسَ بلاغيًّا؛ فـ "عينُ الباشا" و "غزة" ليستا بقعتينِ جغرافيتينِ مُنفصلتين في الوعيِ الجمعيِّ الأردنيِّ. هما جزءٌ من سياقٍ واحدٍ من الكرامةِ والارتباطِ المصيريِّ بالقضية.
الاستنكارُ الذي اندلعَ في بيتِ العزاءِ هو شهادةٌ شعبيةٌ بامتيازٍ على أنَّ الدعمَ الأمريكيَّ للكيانِ الصهيونيِّ لم يَعُدْ يُنظرُ إليهِ كـ "سياسةٍ خارجيةٍ" فحسب، بل كـ شراكةٍ في الجريمةِ الإنسانية. وكلُّ محاولةٍ لتقديمِ العزاءِ أو "التعاطفِ" من هذا الطرفِ هي بمثابةِ محاولةٍ سافرةٍ لتبادلِ الأدوارِ المخجلة؛ حيثُ يُرادُ من "يدِ الدعمِ العسكريِّ" أن تتحوَّلَ فجأةً إلى "يدِ المواساةِ الإنسانية".
خاتمةُ الجدلِ: رسالةٌ إلى صُنَّاعِ القرار
إنَّ الاستياءَ العارمَ من هذه الزيارةِ هو رسالةٌ شعبيةٌ قويةٌ، مكتوبةٌ بمدادِ الغضبِ والمعاناة، موجَّهةٌ إلى صُنَّاعِ القرارِ والمُروِّجينَ للبروتوكولات. مفادُها أنَّ الجسرَ الدبلوماسيَّ لا يمكنُ أن يُبنى على أرضيَّةٍ مُلطَّخةٍ بدماءِ الأبرياء. وأنَّ الشعبَ الأردنيَّ يمتلكُ بوصلةً أخلاقيةً حادَّةً ترفضُ الفصلَ بينَ المُعزِّي وداعمِ المُعتدِي.
الوطنُ، في زمنِ الأزماتِ، هو حيثُ يتَّحِدُ الاستنكارُ الشعبيُّ مع الحقيقةِ المُطلقةِ ليرسمَ حدودًا واضحةً بينَ الصَّديقِ والشَّريكِ في إدامةِ الظُّلم. وهذه الحدودُ لا تسمحُ بـ "نفاقِ العزاءِ" على حسابِ "شرفِ الموقفِ".

























