د.حسن براري يكتب : التكافؤ الأخلاقي
نبأ الأردن -
شاركت في عام 2003 بمؤتمر حول الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط عقد في كوبنهاجن في الدنمارك. وخلال المؤتمر، اقتربت مني صحفية دنماركية بعد إحدى الجلسات وقالت بابتسامة مهنية إنها ستكون في عمان خلال أسبوع، وإنها ترغب في إجراء مقابلة صحفية معي حول قضايا الشرق الأوسط. رحبت بالفكرة في حينها ولم أكن أدري أن هذا اللقاء سيتحول إلى مواجهة فكرية محتدمة.
بعد أيام وصلني منها ايميل لتأكيد الموعد، وبالفعل تم اللقاء في مكتبي بالجامعة. دخلت الصحفية بثقة ظاهرة وبدأت تطرح أسئلتها وكنت أجيب على كل أسئلتها حتى وصلت في حديثي إلى موضوع الهولوكوست، فقلت إن ما تمارسه دولة الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين يحمل تشابهًا أخلاقيًا وإنسانيًا مع تلك المأساة التاريخية. عندها، انقلب المشهد فجأة حيث اشتاطت غضبًا وارتفع صوتها قائلة "لا يوجد تكافؤ أخلاقي" وبدأت تدافع عن إسرائيل بانفعال فاق حدود اللياقة المهنية. قلت لها حسنا، لنتفق أن نختلف ونستمر في الحوار، لكنها اشترطت أن أسحب كلامي عن الهولوكوست، عندها لم أتردد، طلبت منها مغادرة مكتبي فورًا لأنها مزدوجة المعايير وبشيء من الوقاحة.
في إسرائيل الآن من يتحدث عن التكافؤ الأخلاقي، فالفلسطينيون هم الأشرار حتى وهم يدافعون عن أنفسهم! هذا المفهوم جاء كاختراع دعائي لإفلات القوى الإمبريالية من المساءلة على ما ترتكبه من جرائم بحق الشعوب الأقل تطورا. بمعنى آخر، هو أداة تبرير تستخدم لإبطال أي نقد أخلاقي عندما يكون الفاعل هو القوى الإمبريالية والاستعمارية، وبكل تأكيد اسرائيل هي دولة استعمارية بامتياز.
الراهن، أن ثنائية الضحية والجلاد تستمر من دون توقف في عالم اليوم، ولعل إبادة غزة هي أخر تجليات هذه الثنائية، وفيها استندت تل ابيب وواشنطن من خلفها على سردية "التكافؤ الاخلاقي" لتجريم المقارنة بين الضحية والجلاد. غير أنها في الوقت ذاته تحولت الإبادة إلى المحاكمة الأوضح لهذا المفهوم بعد أن انهار أمام صور الأطفال تحت الأنقاض. ولأول مرة منذ عقود، بدا أن الرأي العام العالمي يرفض تمايزًا أخلاقيًا يحتكره الأقوياء ويعيد تعريف الأخلاق بوصفها قائمة على النتائج لا على ادعاءات النوايا. بهذا المعنى، كشفت غزة ما كان تشومسكي يحذر منه في أن خطاب الهيمنة لا يصمد أمام الحقيقة حين تظهر أجساد الضحايا كمعيار أخلاقي لا يمكن الالتفاف عليه.

























