د. وليد العريض يكتب:العودة إلى مكة... حين يحاول الحقد أن يكتب التاريخ من جديد
نبأ الأردن -
الكتاب الذي يزوّر الله والتاريخ معًا
في السنوات الأخيرة، ظهر كتاب غريب العنوان والمضمون، يحمل اسم «العودة إلى مكة»، لمؤلفٍ إسرائيلي يُدعى آفي ليبكين، يحاول أن يقنع القارئ بأن الجزيرة العربية – وفي قلبها مكة والمدينة – أرض يهودية ضائعة يجب أن "يعود” إليها بنو إسرائيل يومًا ما!
إنه ليس بحثًا تاريخيًا ولا دراسة أكاديمية، بل إعلان نوايا عدوانيّ مكتوب بلغة النبوءة.
ليبكين لا يبحث في النصوص، بل يفتّش عن ذريعةٍ جديدة لتوسيع خريطة إسرائيل
ويضع مكة والمدينة والقدس في مثلثٍ واحدٍ يسميه "مثلث العودة المقدّسة”.
...
حين يتحوّل التاريخ إلى سلاح
منذ الصفحات الأولى، يكشف المؤلف عن مشروعه الحقيقي:
أن ينسج خرافةً تقول إن بني إسرائيل هم الذين طافوا بالكعبة قبل المسلمين
وأن الحجّ طقس توراتيّ قديم "سرقه” الإسلام وأعاد تدويره.
ينقل ليبكين قصة موسى من سيناء إلى صحراء الجزيرة
ويحوّل الكعبة إلى "هيكل صغير”
ويكتب ببساطةٍ مدهشة:
"مكة جزء من تاريخنا الضائع، ويجب أن نعود إليها كما عدنا إلى القدس.”
هكذا، يتحوّل النصّ الديني إلى خريطة سياسية،
ويتحوّل الإيمان إلى خطة استيطانٍ روحية.
...
عداء بوجهٍ لاهوتي
في ظاهره يتحدث الكتاب عن الإيمان؛
وفي باطنه، هو حقدٌ على الإسلام وتاريخه ونبيه ومقدساته.
يقدّم المؤلف الإسلام كديانةٍ "مستعارة”،
ويصوّر النبي محمد ﷺ كامتدادٍ "منحرف” للوحي العبري،
ويتعامل مع الحجاز كـ"أرضٍ عبريةٍ اغتصبها العرب".
إنها نفس الفكرة القديمة بثوبٍ جديد:
حين يعجز السلاح عن احتلال الأرض،
يحاول القلم أن يحتلّ التاريخ.
...
من القدس إلى مكة... خريطة أطماع
ما يفعله ليبكين لا يبتعد عن العقل الصهيونيّ الذي اعتاد
أن يبدأ كل توسّعٍ بـ"قصةٍ توراتية".
فمنذ وعد بلفور إلى اليوم
كان النصّ الديني هو الذريعة والسياسة هي الهدف.
اليوم بعد القدس والجولان
يكتب هذا الكاتب الإسرائيلي عن "العودة إلى مكة”
وكأنها المرحلة القادمة في سردية "إسرائيل الكبرى”.
من يقرأ كتابه يدرك أن الطموح لم يعد جغرافيًا فقط،
بل رمزيًّا: السيطرة على رموز الإسلام نفسها
ونزع القداسة عن مكة كما نُزعت عن القدس.
تزييف التاريخ… واستعمار الذاكرة
لا يعتمد المؤلف على أثرٍ أو مصدرٍ علميّ،
بل على انتقاء نصوصٍ توراتيةٍ قديمة وتلوينها بخرائط خيالية.
يعيد رسم الصحراء بما يخدم فكرته
ويستعمل المفردات الدينية لتبرير أطماعٍ سياسية مكشوفة.
إنه يكتب كما كتب المستشرقون من قبله:
"غيّروا خرائط الكتب… يتغيّر وعي الناس.”
ومن هنا، فإن خطورة الكتاب لا تكمن في فكرته وحدها،
بل في قدرته على اختراق الوعي الغربيّ،
الذي لا يعرف من تاريخ الإسلام إلا ما يُقدّمه له هؤلاء المزوّرون.
الردّ ليس بالصراخ بل بالوعي
في مواجهة هذا الخطاب، لا يكفي الغضب ولا الشجب.
بل يجب أن نعيد نحن – العرب والمسلمون –
كتابة تاريخنا بلغتنا، وبمناهجنا وبشهاداتنا.
فمن لا يملك روايته، سيجد الآخر يكتبها عنه.
يجب أن نقرأ مثل هذا الكتاب بعينٍ ناقدة،
لا لنغضب، بل لنفهم كيف يفكّر الآخر،
وكيف يُلبس أطماعه ثوب الوحي والنبوءة.
وختاما: مكة لا تُعاد… لأنها لم تُغتصب
إن أخطر ما في كتاب "العودة إلى مكة”
أنه يحاول أن يسرق الروح قبل أن يسرق الأرض.
لكن مكة ليست فكرة تُستردّ،
بل حقيقة خُلقت في قلب الإيمان
ومن يحاول نسبتها لغير الإسلام،
كمن يحاول أن يسرق الشمس من نهارها.
الذين سرقوا القدس من الجغرافيا
يحاولون اليوم سرقة مكة من التاريخ.
لكن التاريخ – مهما كُتب بالحبر –
يبقى محفوظًا باليقين، لا بالأساطير.
...
د. وليد العريض
مؤرخ، أديب شاعر، وكاتب صحفي

























