وائل منسي يكتب : أزمة أميركا وفنزويلا .. استحضار "خليج الخنازير"

{title}
نبأ الأردن -
تتجه الأزمة الأمريكية – الفنزويلية الراهنة إلى أن تصبح أخطر اختبار جيوسياسي لنصف الكرة الغربي منذ ستة عقود، إذ تتقاطع فيها خطوط التاريخ والجغرافيا والسياسة الدولية في مشهد يعيد إلى الأذهان أزمة خليج الخنازير عام 1961. فبينما تحركت الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة دونالد ترامب لإغلاق المجال الجوي فوق بورتو ريكو ونشر وحدات بحرية قرب السواحل الفنزويلية، وردت تقارير عن طلب كاراكاس دعماً عسكرياً عاجلاً من روسيا والصين وإيران، بدا المشهد وكأن التاريخ يعيد نفسه في نسخة محدثة من عقيدة مونرو، حيث تعتبر واشنطن أمريكا اللاتينية مجالها الحيوي الذي لا يُسمح لقوة أجنبية بالتغلغل فيه. المشهد يذكر بأيام جون كينيدي حين حاولت الولايات المتحدة إسقاط نظام فيدل كاسترو في كوبا بعملية إنزال فاشلة في خليج الخنازير، انتهت بتعزيز الوجود السوفييتي في الجزيرة وباندلاع أزمة الصواريخ التي كادت أن تفجر حرباً نووية. آنذاك ظنّ البيت الأبيض أن عملية خاطفة ستنهي الحكم اليساري في كوبا، لكن الحسابات كانت مضللة، والميدان أفشل الخطة، فخرجت واشنطن من الأزمة جريحة، وخرجت كوبا أكثر صلابة، وخرجت موسكو بموطئ قدم في البحر الكاريبي.
واليوم تتكرر المعادلة نفسها وإن بأدوات مختلفة؛ تهديدات عسكرية، تحركات بحرية، وضغوط اقتصادية وإعلامية، مقابل اندفاع فنزويلي نحو محور مضاد يجد في الأزمة فرصة لتوسيع نفوذه في الخاصرة الأمريكية الجنوبية.
ترامب يلوّح بالقوة كالعادة بينما ينفي وجود نية فورية للضرب، ووزارته تغلق الأجواء "لدواعٍ أمنية خاصة” والكونغرس يشهد انقساماً بين من يدعو لتدخل مباشر ومن يحذر من فخ جديد قد يورط واشنطن في مستنقع استنزاف شبيه بما حصل في الستينات.
أما نيكولاس مادورو فيسعى لتكرار تكتيك كاسترو: تحويل التهديد إلى مكسب، واستدعاء الدعم من موسكو وطهران وبكين لتشكيل مظلة ردع متعددة الأبعاد، تمنح فنزويلا حماية سياسية ونفساً تفاوضياً أطول، وتبعث برسالة بأن سقوط كاراكاس لن يكون بلا ثمن.
الاختلاف أن الحرب الباردة القديمة كانت ثنائية واضحة، أما الآن فهي تعددية ومتشابكة، فروسيا تبحث عن تثبيت حضورها في نصف الكرة الغربي بعد تمدد الناتو شرقاً، والصين تسعى لتأمين مصالحها الطاقوية عبر الاستثمارات في النفط الفنزويلي، وإيران ترى في التحالف مع كاراكاس فرصة لفتح جبهة ضغط غير مباشرة على الولايات المتحدة من قلب الكاريبي. هذا التداخل يجعل من أي خطأ في الحساب أو استفزاز عسكري احتمالاً لانفجار إقليمي لا يمكن التنبؤ بمآلاته، كما كان الحال حين تحولت مغامرة خليج الخنازير إلى أزمة صواريخ وضعت العالم على حافة الفناء النووي.
ومع أن ترامب يحاول الظهور بمظهر الحازم القادر على فرض الردع، إلا أن أدوات القوة وحدها لم تعد كافية؛ فالعالم لم يعد أحادي القطب، والتهديد العسكري لم يعد مضمون النتائج في بيئة تتقاطع فيها القوة الصلبة بالقوة الناعمة، والردع العسكري بالردع السيبراني والإعلامي والاقتصادي. في الجوهر، الأزمة ليست صراعاً بين واشنطن وكاراكاس فحسب، بل اختباراً لمدى قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على مركزية نفوذها في زمن تتقاسم فيه القوى الكبرى مناطق التأثير. وإذا كانت أزمة الستينات قد انتهت بصفقة كينيدي – خروتشوف التي جنبت البشرية كارثة نووية، فإن أزمة 2025 قد تؤول إلى صفقة توازن جديدة بين واشنطن ومحور موسكو – بكين طهران، تضمن بقاء فنزويلا خارج دائرة الحرب مقابل تقليص حضور الخصوم في جوارها الجغرافي، وفتح مسارات دبلوماسية واقتصادية بإشراف إقليمي.
في كلتا الأزمتين كانت الولايات المتحدة تتحدث بلغة الردع ولكنها تدرك أن الخطأ في التقدير قد يحول "الردع” إلى "دمار”.
واليوم كما بالأمس، يبقى الدرس الأهم أن القوة بلا بصيرة ليست امتيازاً بل عبء، وأن القيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد البوارج في البحر الكاريبي، بل بقدرتك على إيقافها قبل أن تطلق النار.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير