د. مسعود محمد شلندي يكتب:"الشروع في الانتحار في التشريع الجنائي الليبي: قراءة تحليلية في فلسفة التجريم"
نبأ الأردن -
بقلم: المستشار. د. مسعود محمد شلندي...
يُعدّ الحق في الحياة من أقدس الحقوق التي ينهض القانون الجنائي بحمايتها، إذ يُعَدّ أساس النظام القانوني والاجتماعي. غير أن التساؤل الجوهري الذي يثور هنا هو: هل تمتد سلطة الدولة في الحماية الجنائية لتشمل الفرد من نفسه؟ وهل يُعدّ الشروع في الانتحار فعلاً مجرّماً يستوجب العقاب؟
إن الإجابة في الإطار الليبي تستدعي العودة إلى قاعدة الشرعية الجنائية التي قررتها المادة (1) من قانون العقوبات الليبي، والتي تنص على أنه: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص». ومؤدى ذلك أنه لا محل لتجريم الشروع في الانتحار ما لم يرد به نص صريح. فالأصل أن الأفعال الموجهة ضد النفس تخرج عن نطاق العقاب ما لم تمسّ مصلحة اجتماعية عليا، كالنظام العام أو الأمن العام أو أداء واجب وطني كالجندية.
وعليه، فإن عدم وجود نص في التشريع الليبي يُجرّم محاولة الانتحار يعكس توجهاً تشريعياً واعياً، يميّز بين الفعل الذي يهدد المجتمع والفعل الذي يصدر عن اضطراب داخلي أو معاناة نفسية. فالمشرع لا يعاقب على الألم، بل يواجه الخطر الاجتماعي، وهو هنا غير متحقق على نحو مباشر.
في المقابل، تتبنى بعض التشريعات العربية مقاربة عقابية كعُمان والسودان وقطر، حيث يُعاقَب المحاول بالحبس أو الغرامة، بينما تميل اتجاهات أخرى، كالمغرب وتونس ولبنان، إلى المعالجة النفسية والوقائية بدلاً من العقاب. وهذا التباين يعكس اختلاف الفلسفات الجنائية بين من يرى في الانتحار خطراً على القيم الدينية والاجتماعية، ومن يراه عرضاً لاضطراب يستوجب العلاج لا السجن.
من منظور فلسفة التجريم، فإن العقاب لا يهدف إلى الانتقام بل إلى حماية المجتمع. ومحاولة الانتحار لا تمس تلك الحماية إلا إذا تحولت إلى سلوك علني يثير الفزع أو يشكل إخلالاً بالنظام العام. عندها فقط يمكن للمشرع التدخل الجنائي المحدود لتحقيق الردع العام، دون المساس بالبعد الإنساني للحالة النفسية.
وخلاصة القول:
إن السياسة الجنائية الرشيدة في ليبيا ينبغي أن تُوازن بين صون الحق في الحياة وبين احترام كرامة الإنسان وخصوصية أزماته النفسية. فلا يجوز أن يتحول القانون إلى سوط يُلهب به من ضاقت به الحياة، بل يجب أن يكون مظلة رحمة وعدل. وتجريم الانتحار أو الشروع فيه لا يصون الحياة، بل قد يدفع إلى فقدانها في صمت. أما الدعم النفسي والرعاية الاجتماعية، فهما الطريق الأقوم لحماية الإنسان والمجتمع معاً.
.. وسلام .....

























