محمد الخطيب يكتب: رئيس مجلس النواب: التشاركية لا المناكفة.. والانتماء قبل الشعارات

{title}
نبأ الأردن -
جاء خطاب معالي مازن القاضي، رئيس مجلس النواب، في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين، محملاً بدلالات سياسية ووطنية عميقة، تمثل خلاصة تجربة رجل دولة بدأ مسيرته من الميدان الأمني والعسكري، وواصلها في العمل الوزاري والنيابي، حتى وصل إلى موقعه الجديد رئيسا لمجلس النواب، في لحظة وطنية تتطلب خطابا جامعا ومسؤولا.

أولاً: نبرة قائد يعرف الدولة من الداخل

منذ مستهل كلمته، بدا القاضي قريبا من أسلوب الضابط المحترف الذي يعرف معنى الانضباط والمسؤولية. استخدم لغة رسمية متزنة لكنها مشحونة بالالتزام الوطني والأخلاقي، فقال: هذه الثقة الغالية تكليف لا تشريف، وحمل ثقيل على الضمير تجاه الأردن العظيم".
هذه العبارة تلخص فلسفة القاضي في القيادة: المسؤولية ليست وجاهة، بل تكليف ورسالة، وهو ما يعكس تربيته المهنية كضابط أمن عام سابق يعرف قيمة الانضباط والالتزام بالواجب قبل الامتيازات.

ثانياً: من الأمن إلى السياسة – الانضباط في إدارة العمل النيابي

القاضي القادم من مؤسسة أمنية ثم وزارة الداخلية، ينقل إلى رئاسة مجلس النواب رؤية تقوم على الهيبة، والانضباط، والتنظيم، وهي القيم التي أكدها مرارا في خطابه، حين شدد على أن "هيبة المجلس وقوته وصدقيته تعتمد على حسن إدارة المجلس وأداء أعضائه".
بهذا، يعلن رئيس المجلس ان العلاقة بين النواب يجب أن تضبطها قواعد السلوك المؤسسي والمسؤولية الوطنية، لا المزايدات أو الشعبوية.

ثالثاً: في حضرة الملك – التماهي مع خطاب الدولة

جاء الخطاب في سياق وطني مشحون عقب خطاب العرش السامي، فالتقط القاضي الجوهر بذكاء سياسي، حين ربط أولويات المجلس بتنفيذ ما ورد في خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني، مؤكداً أن واجب البرلمان هو أن يكون "منبرا للحق والعمل الجاد وصوت المواطن وصداه"، وأن يتعامل مع الحكومة على أساس التكامل والتشاركية لا المناكفة.
هنا، يظهر القاضي كمن يسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وفق منطق "التعاون لا التصادم"، وهو خطاب ناضج يعكس وعيه بأن الأردن اليوم بحاجة إلى تناغم مؤسسات الدولة في مواجهة التحديات الإقليمية والاقتصادية، لا إلى استقطابات داخلية.

رابعاً: البعد القومي والهاشمي في الخطاب

لم يكتفِ القاضي بالحديث الداخلي، بل قدّم قراءة سياسية متقدمة للموقف الأردني بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني تجاه الحرب في غزة والقضية الفلسطينية.
أشاد بقدرة الملك على "تفكيك الرواية الإسرائيلية واختراق جبهات الداعمين لها"، ووصفه بأنه "أكثر من أوجع إسرائيل في حرب غزة الأخيرة"، وهي عبارات تعبّر عن إعجاب وطني صادق بالدبلوماسية الهاشمية التي أعادت للأردن مكانته القيادية في المنطقة.
ويأتي هذا الموقف من القاضي منسجما مع خلفيته الأمنية والسياسية، حيث يدرك أن القوة الناعمة الأردنية في الموقف السياسي ليست بعيدة عن القوة الصلبة المتمثلة في الجيش العربي والأجهزة الأمنية التي أشاد بها في ختام خطابه بوصفها "الحارسة على ثرى الوطن والمصدر الدائم للفخر والاعتزاز".

خامساً: الشباب وخدمة العلم – رؤية رجل أمن يدرك معنى الانتماء

من أبرز محاور الكلمة، تأكيد القاضي على أهمية إعادة تفعيل خدمة العلم باعتبارها "ضرورة وطنية"، وهي دعوة نابعة من رؤية أمنية واجتماعية ناضجة، تهدف إلى تعزيز الانتماء والانضباط والمسؤولية لدى الشباب الأردني.
القاضي، الذي تربى في مدرسة الأمن العام، يعرف تماما أن الانتماء الوطني لا يُبنى بالخطابات بل بالتربية العملية، وأن خدمة العلم يمكن أن تكون أداة لتجديد روح الالتزام والانتماء في الجيل الجديد.
ولذلك، جاء تأكيده أن "الدفاع عن الوطن فريضة، والاعتزاز بالهوية الوطنية شرف" ليضع هذا البند ضمن أولويات الأمن المجتمعي.

سادساً: الإعلام الوطني – الوعي قبل الإثارة

في فقرة لافتة، دعا القاضي إلى بناء نظام إعلامي حديث يستند إلى المهنية والحرية المسؤولة، مؤكدا أن الإعلام يجب أن يكون "ركيزة لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، لا أداة للتهويل أو بث الشائعات.
هذا الطرح يعكس إدراكه لأهمية الإعلام كأداة للأمن الوطني، لا فقط كمنبر للرأي العام، وهي نظرة رجل أمن سابق يفهم خطورة المعلومة غير المنضبطة في زمن الفوضى الرقمية.

سابعاً: خطاب التوازن والرسالة الوطنية

من الواضح أن القاضي سعى من خلال كلمته إلى تقديم نموذج جديد لرئيس مجلس النواب؛ رجل دولة متزن، يجمع بين الانضباط العسكري والحكمة السياسية، ويؤمن بأن قوة المجلس تكمن في هيبته ومصداقيته، لا في صوته العالي.
كما حرص على توجيه رسالة إلى الداخل الأردني بأن المرحلة تتطلب العمل الجماعي والمسؤولية، وإلى الخارج بأن الأردن ثابت على مواقفه القومية والإنسانية، وراسخ في قيادته الهاشمية.

ثامناً: ختام يليق برجل دولة

اختتم القاضي خطابه بعبارات تعكس التواضع والإيمان برسالة الخدمة العامة، قائلاً:

لم أسعَ يوماً إلى وجاهة أو منصب، بل إلى رسالة أؤديها وأمانة أحملها مؤقتاً، عبارة تختصر فلسفة رجل الدولة الحقيقي، الذي يرى أن المناصب زائلة، ويبقى العمل الصادق هو الخالد في ذاكرة الوطن، ولعل هذه الخاتمة هي انعكاس لمسيرته كلها: من ضابط في الميدان، إلى وزير داخلية، إلى نائب، فإلى رئيس مجلس نواب، ظل طوالها وفياً لفكرة الدولة والواجب والانتماء.

خطاب معالي مازن القاضي لم يكن مجرد كلمات بروتوكولية في افتتاح دورة برلمانية؛ بل كان بيان موقف لرجل أمن وسياسة يعلن فيه عن فلسفته في القيادة التشريعية، ويضع أسس مرحلة جديدة عنوانها:
"الانضباط البرلماني، التشاركية المؤسسية، والانتماء الوطني".

فكما عرفناه في الأمن والداخلية، يبقى مازن باشا القاضي رجل دولة لا يرفع صوته كثيراً، لكنه يعرف متى يتكلم، وماذا يقول، ولمن يقول.
تابعوا نبأ الأردن على
تصميم و تطوير