أ.د.حسن الدعجة يكتب: المقاومة بين الشرعية والضرورة: قراءة في رؤية دولة د.عادل عبد المهدي
نبأ الأردن -
تُعَدُّ مسألة المقاومة من أكثر القضايا إشكالية في الفكر السياسي والقانوني المعاصر، فهي تقع في المسافة الفاصلة بين شرعية الفعل المقاوم باعتباره حقاً أصيلاً للشعوب في الدفاع عن وجودها وكرامتها، وبين ضرورته الوجودية التي يفرضها الواقع حين تغيب الدولة أو تتخلى عن مسؤولياتها. في هذا السياق، يقدم عادل عبد المهدي في نصه "قيمومة المقاومة وشرعيتها – بشرطها وشروطها" رؤية تحليلية تجمع بين بعدين متداخلين: الأول يرتبط بتراجع النظام الدولي المهيمن ودخول العالم في مرحلة تحولات بنيوية، والثاني يستند إلى جدلية العلاقة بين الدولة والمقاومة، وما تطرحه من أسئلة حول المشروعية والسيادة. النظام الدولي وأفول الهيمنة ينطلق تفكير الدكتور عادل عبدالمهدي من فرضية أن النظام الدولي ليس مجرد توازن مصالح بين دول، بل هو منظومة متكاملة قادتها القوى الغربية لعقود طويلة، وأدارتها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بما يخدم مصالحها. غير أن هذا النظام يعيش اليوم حالة أفول تاريخي، تعكسه الأزمات البنيوية التي تضرب الاقتصاديات الغربية، وتراجع قدرتها على فرض هيمنتها المطلقة، وانكشاف ازدواجية المعايير في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. ويشير إلى أن هذه التحولات ليست مؤقتة، بل تمثل بداية مرحلة جديدة يشهد فيها العالم صعود قوى بديلة كروسيا والصين، إلى جانب بروز حركات المقاومة كفاعل مركزي في السياسة الدولية. من هنا، فإن المقاومة لا تُفهم فقط كفعل محلي، بل كجزء من صراع عالمي يعيد تشكيل موازين القوى. المقاومة كضرورة وجودية في ظل هذا الواقع، يوضح فخامته أن المقاومة لم تعد خياراً سياسياً محدوداً، بل ضرورة وجودية للشعوب التي تواجه الاحتلال والاستيطان ومشاريع التطهير العرقي. فهي تمثل أداة الدفاع الأخيرة حين تعجز الدولة أو تتقاعس عن حماية مواطنيها. ويرى أن العدو نفسه يعيش اليوم حالة إنكار لهذه التحولات، إذ لم يعد قادراً على حسم المعركة أو فرض شروطه، كما أظهرت وقائع كبرى مثل "طوفان الأقصى" التي بيّنت هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية وأزماتها البنيوية. في المقابل، أظهرت المقاومة قدرتها على فرض معادلات جديدة، ما يجعلها جزءاً من معادلة البقاء والكرامة للشعوب. الشرعية القانونية والأخلاقية يركز عبد المهدي على أن الشرعية لا تُمنح من الخارج، بل تُكتسب من فعل المقاومة نفسه باعتباره تجسيداً لإرادة الشعوب. فعلى المستوى القانوني، يستند إلى نصوص واضحة في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، حيث تقر المادة 51 بحق الشعوب في الدفاع عن نفسها ضد الاحتلال. كما تؤكد قرارات أممية عدة في السنوات (1973، 1982، 1998) على مشروعية مقاومة الاستعمار والفصل العنصري بجميع الوسائل، بما فيها الكفاح المسلح. وإلى جانب ذلك، نصّت اتفاقيات جنيف على أن حركات المقاومة ضد الاحتلال تُعامل باعتبارها طرفاً في نزاع دولي مشروع. أما على المستوى الأخلاقي، فيستحضر عبد المهدي أطروحات فلسفية معاصرة مثل جون رولز، ليؤكد أن المقاومة تصبح مشروعة حين تكون الخيار الأخير بعد استنفاد الوسائل السلمية، وحين تراعي التناسب بين الفعل وحجم الظلم، وأن تُعبّر عن إرادة حقيقية للشعوب لا عن أجندات خارجية. هذه الأبعاد تجعل المقاومة شرعية لا في بعدها القانوني فحسب، بل أيضاً في بعدها الأخلاقي القيمي. بين الدولة والمقاومة تُطرح العلاقة بين الدولة والمقاومة كإحدى المسائل الأكثر تعقيداً في الرؤية التي يقدمها عبد المهدي. فهو يشير إلى أن الاقتصار على ربط شرعية العمل المقاوم حصراً بيد الدولة قد لا يعبّر دائماً عن الواقع المركب الذي تمر به المجتمعات، إذ توجد حالات استثنائية قد تُظهر الدولة بمظهر العاجزة أو المحدودة القدرة في مواجهة التحديات الكبرى. وفي مثل هذه الظروف، قد تنشأ حركات مقاومة تعبّر عن تطلعات المجتمع إلى حماية سيادته وصون أمنه. ومن هنا، تصبح العلاقة بين الدولة والمقاومة علاقة جدلية أكثر منها تضاداً، فقد تكون أحياناً تكاملية عندما تنهض الدولة بمسؤولياتها، بينما قد تتقدم المقاومة لأداء أدوار إضافية عندما تجد فراغاً في الساحة الوطنية. هذا التداخل يفتح الباب لنقاش أوسع حول طبيعة الدولة، وحدود دورها في حماية السيادة وضمان استقلالية القرار الوطني. شواهد تاريخية لتعزيز حجته، يستند عبد المهدي إلى عدد من الأمثلة التاريخية التي تُرسخ شرعية المقاومة. فقد خاض شعب جنوب أفريقيا مقاومة مسلحة ضد نظام الفصل العنصري، وحظي بدعم عالمي حتى تحقق النصر. كما واجهت المقاومة الفرنسية الاحتلال النازي رغم اعتراف حكومة فيشي بشرعية الاحتلال، وهو ما أعطى الشرعية للمقاومة لا للدولة العميلة. كذلك الحال في البوسنة والهرسك التي قاومت مشاريع التطهير العرقي. وعلى المستوى العربي والإسلامي، يقدم مثال الحشد الشعبي في العراق الذي نشأ استجابة لفتوى الجهاد الكفائي ضد تنظيم داعش، وحقق شرعية شعبية وأخلاقية قبل أن يُقنن في إطار الدولة. هذه الأمثلة تؤكد أن المقاومة ليست استثناءً، بل قانوناً متكرراً في التاريخ الإنساني. إن قراءة في فكر د.عادل عبد المهدي لمسألة المقاومة تكشف عن مقاربة مزدوجة: فهي من جهة شرعية لأنها تعبر عن حقوق أصيلة للشعوب أقرتها القوانين الدولية والمواثيق الإنسانية، ومن جهة أخرى ضرورة لأنها السبيل الوحيد لضمان البقاء والكرامة في مواجهة مشاريع الإبادة والاحتلال وهيمنة القوى الكبرى. ويخلص إلى أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري أو رد فعل ظرفي، بل مشروع تاريخي وأخلاقي يندرج في إطار تحولات كبرى يشهدها النظام الدولي. وبذلك، فإن جدلية الشرعية والضرورة لا تعكس فقط حاجة الشعوب إلى التحرر، بل تعكس أيضاً وعياً متقدماً بأن المقاومة أصبحت جزءاً من معركة عالمية ضد نظام هيمنة آخذ في التراجع، ما يمنحها بُعداً إنسانياً يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة المحلية.

























